شهد الصراع العربي- الصهيوني، منذ بداياته، صفقات تبادل أسرى وليس فقط عقب انتهاء الحروب بين إسرائيل وبين دول عربية، وفي بعض هذه الصفقات اضطرت الأولى للإفراج عن مئات الأسرى مقابل جندي إسرائيلي واحد، أو عدد قليل من الجنود. والمشترك في كل الصفقات أن الإفراج عن عدد كبير من الأسرى، واحترام الاتفاقات يأتي فقط بعد عملية عسكرية، وليس عبر مفاوضات مع السلطة الفلسطينية.
وعلى المستوى الفلسطيني الإسرائيلي تمت عدة صفقات تبادل أسرى، ومن أبرزها صفقة بين إسرائيل و”الجبهة الشعبية- القيادة العامة”، برئاسة الراحل أحمد جبريل، عام 1979، وشملت الإفراج عن جندي إسرائيلي واحد مقابل 79 أسيراً فلسطينياً وقعوا في الأسر خلال “اجتياح الليطاني”، عام 1978.
وعقب انتهاء حرب لبنان الأولى، عام 1982، اتفقت إسرائيل وحركة “فتح” على إطلاق طيار إسرائيلي وتسعة جثامين لجنود إسرائيليين، مقابل الإفراج عن كل الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين المحتجزين داخل سجن “أنصار”، علاوة على 66 أسيراً فلسطينياً من السجون الإسرائيلية، من بينهم المناضل الراحل ابن مدينة عكا فوزي النمر، زوج المناضلة فاطمة البرناوي.
وفي صفقة “النورس”، عام 1983، تمت صفقة تبادل بين إسرائيل وبين “الجبهة الشعبية- القيادة العامة”، بقيادة جبريل، وبموجبها أفرجت إسرائيل عن1151 أسيراً فلسطينياً، مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين تم أسرهم على الأرض اللبنانية. وشملت الصفقة هذه إطلاق سراح أسرى من فلسطينيي الداخل، الذين كانت إسرائيل تتعنّت وترفض إطلاقهم، بدعوى أن هؤلاء مواطنون فيها. ومن المفرج عنهم في هذه الصفقة منير منصور، راجح بشير، جميل ذياب، ومحمود شحادة من بلدة مجد الكروم في الجليل، وكمال قبطي من كفر كنا في الجليل، علي شقور من سخنين، مالك شناوي ومحمود دسوقي، وكلاهما من بلدة الجديدة- المكر في الجليل، صالح قويقس، وقويقس قويقس من بلدة يركا المعروفية في الجليل.
في قضية أسرى ما بعد 7 أكتوبر، فإن قدرة إسرائيل على ضبط الشارع تكاد تكون صفراً، خصوصاً لأن هناك أطفالاً ونساء بينهم، كما أن عددهم الكبير يجعلهم قضية رأي عام غير قابل للضبط
وبعد نجاح المقاومة الإسلامية “حماس” بإلقاء القبض على الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط، عام 2006، في عملية نوعية، تمت صفقة “وفاء الأحرار”، التي عرفت بالقاموس الإسرائيلي بصفقة “شاليط”، اضطرت فيها إسرائيل لإطلاق سراح 1027 أسيراً فلسطينياً مقابل الجندي شاليط، من بينهم قائد “حماس” في القطاع يحيى سنوار. وشملت الصفقة هذه المرة إطلاق سراح أسرى من فلسطينيي الداخل أيضاً، وليس فقط من الأرض المحتلة عام 1967، من بينهم الأسير الراحل سامي يونس، محمد زايد، محمد جبارين، علي عميرية، ومخلص برغال.
وفي أعقاب صفقة “وفاء الأحرار” تم (عام 2013)، وبضغط خارجي، الاتفاق بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية على “إفراجات حسن نية”، لكن إسرائيل التي أطلقت سراح أسرى لم يتبق إلا القليل من محكومياتهم، أو أسرى جنائيين، استنكفت عن تنفيذ الدفعة الرابعة من الإفراجات، التي كان يفترض أن تطلق فيها مجموعة من أسرى عرب 48، ومن بينهم عدد من الأسرى المحكومين بالمؤبدات، وتم اعتقالهم قبل توقيع اتفاق أوسلو، عام 1993، بكثير، أمثال كريم يونس وماهر يونس (وسامي يونس)، من عارة في منطقة المثلث، ووليد دقة من مدينة باقة الغربية، وغيرهم. ويستذكر منير منصور، وهو أسير محرر، ونصير للأسرى، في حديث لـ “القدس العربي”، أنه عند توقيع اتفاق أوسلو كان هناك 112 أسيراً فلسطينياً محكومين بالمؤبد، منهم 29 من أسرى الداخل، بعضهم ما زال خلف القضبان لأكثر من 40 سنة.
وفي هذا المضمار، يعالج تقرير للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار” السؤال: “كيف تتخذ إسرائيل القرار داخلياً؟”.
ويقول إنه بالنسبة لها تعتبر صفقات تبادل الأسرى من أكثر الأمور تعقيداً من ناحية اتخاذ القرار، وتبريره للإسرائيليين، وفق موازين الربح والخسارة. كما يتساءل التقرير؛ ما هو المدخل الذي تستخدمه إسرائيل لمعالجة قضية الأسرى؟ ويقول تقرير “مدار” إنه في الدين اليهودي هناك نصان أساسيان عادة ما تتم العودة إليهما، الأهم بينهما نص منسوب إلى الفيلسوف الطبيب اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون (الرمبام)، ويقول فيه: “ليست لديك فريضة دينية أعظم من فدية أسير. وقد استحضر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو هذه العبارة، في حديثه إلى الإعلام، قبيل اجتماع الحكومة الإسرائيلية، بتاريخ 21 تشرين الثاني الحالي، لإقرار صفقة التبادل. ومع ذلك، هناك نصوص أخرى في “مشناة التوراة” (الشروحات الدينية التي كتبها موسى بن ميمون في بداية القرن الثالث) تدعو إلى تحرير الأسرى اليهود، لكن ليس بأي ثمن. وهذان النصان الدينيان يقعان في صلب النقاش الدائر حالياً في صفوف الإسرائيليين، ويساهمان في تشكيل رأي الدولة، المجتمع، الإعلام والمؤسسات الدينية في إسرائيل. لكن التعامل الرسمي للحكومة الإسرائيلية، بالإضافة إلى المنظومة الأمنية-الاستخباراتية، لا يضع الخطاب التوراتي الديني كمرجع أساسي، وإنما كخطاب ثانوي يظل في خلفية النقاش.
في المقابل، ترى الباحثة كيرن راز، التي درست صفقات التبادل التي قامت بها إسرائيل، أن الحكومة الإسرائيلية تعالج قضية تبادل الأسرى ليس من منطلق ديني، وإنما سياسي، من خلال إطارين اثنين، أولهما نظريات المفاوضات: وهي إطار يركز على أساليب المساومة، والضغط على الآخَر (في هذ الحالة حركة “حماس”)، ونظريات الأمن والعلاقات الدولية: أي علاقات القوة وجدلية الربح والخسارة والقنوات الدبلوماسية وموقف الرأي العام من القضية.
وينوه المركز إلى أنه في كل مرة، يتفاعل هذان الإطاران أثناء اتخاذ القرار المتعلق بإتمام صفقة التبادل، ويتساءل ما هي اعتبارات الربح والخسارة التي تضعها الحكومة الإسرائيلية أمامها؟
يقول “مدار”: “هناك وجهان لجدلية الربح والخسارة، بالنسبة للحكومة الإسرائيلية: أولاً، ترى إسرائيل أن الإفراج عن أسرى فلسطينيين محددين قد يشكل تهديداً قومياً لها. ففي صفقة تبادل العام 1985، تحول العديد من قيادات الحركة الأسيرة الذين أفرج عنهم، بعد عامين، إلى القادة الميدانيين للانتفاضة الأولى. أما يحيى السنوار، الذي تتهمه إسرائيل بتخطيط وتنفيذ هجوم 7 أكتوبر الماضي، فقد تم الإفراج عنه في صفقة تبادل عام 2011، وبالتالي، أحد أهم الاعتبارات التي تضعها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أمامها منع تكرار مثل هذا السيناريو، لكن قد لا تنجح باستمرار، وذلك للسبب الثاني: وهو الخوف على حياة الأسرى الإسرائيليين ومصيرهم. ففي العام 1986، وقع الطيار الإسرائيلي رون أراد في قبضة تنظيم أمل في لبنان، وأفشلت إسرائيل صفقة تبادل لاستعادته في أثناء محاولتها استخدام أسلوب تفاوض غير مرن، إلا أن النتيجة كانت أن الاتصال مع خاطفيه انقطع، ثم انقطعت الأخبار عنه حتى اليوم. ويعيد الإسرائيليون استذكار هذه الحادثة، ويخشون من تكرارها مع حركة “حماس”. وينوه التقرير بأن العلاقة بين الدولة والفرد في إسرائيل تقوم على ادعاء “أنها هي الملاذ الأكثر أماناً ليهود العالم”.
كيف تتفاعل اعتبارات الربح والخسارة إذن؟
يتساءل “مدار”، ويقول إن ثمة العديد من المتغيرات والعوامل التي تؤثر بلا شك على جدليات الربح والخسارة، إذ هناك ثلاثة سيناريوهات تضعها الحكومة الإسرائيلية أمامها: أولاً، إطالة أمد عملية التفاوض قد تؤول إلى فقدان حياة الأسير الإسرائيلي، أو انقطاع السبل لإعادته. ثانياً، إطالة عملية التفاوض وإدارتها وفق اعتبارات أمنية وسياسية إسرائيلية قد تساهم في تعميق التصدع داخل الإسرائيليين، خصوصاً من طرف عائلة الأسير. مثلاً، في الحرب المفروضة على قطاع غزة، تطالب عائلات الأسرى الإسرائيليين حكومتها بإبرام صفقة تبادل فورية تحت شعار “الجميع مقابل الجميع”، وهذه العائلات ترفض أن يتحول أبناؤها إلى مادة مساومة وفق الاعتبارات الأمنية والعسكرية التي تضعها القيادة الإسرائيلية. ثالثاً، في المقابل، ترى الحكومة الإسرائيلية بأن “الخنوع” لمطالب الجهات الخاطفة نزولاً عند مشاعر أهالي الأسرى الإسرائيليين قد يشير إلى نقطة ضعف ستكون الفصائل الفلسطينية قادرة على استغلالها في المستقبل وتكرار عمليات الأسر والخطف. وقد عالجت أطروحة ماجستير في الجامعة العبرية هذه المعضلة، في دراسة شملت ثلاث حالات كان فيها هذه التناقض في صلب النقاش في صفوف الإسرائيليين. وللتذكير، فقد أسرت حركة “حماس” في القدس الجندي الإسرائيلي نحشون فاكسمان العام 1994، ورفضت إسرائيل التعامل معه ضمن منطق “التبادل”، الأمر الذي أدى إلى مقتله في عملية عسكرية فاشلة، وظلت الحادثة عالقة في الذهن الإسرائيلي.
قد يكون التوغل البري، والتدمير شبه الشامل للبنية التحتية للقطاع، وتواجد عشرات الآلاف من الجنود داخل أرض المعركة، عوامل ضغط على حركة “حماس”
كيف تزيد إسرائيل من حظوظها المتعلقة بحسابات الربح والخسارة؟
يرى التقرير أن الاعتبارات أعلاه تتعلق بالثمن الذي تكون إسرائيل على استعداد (أو مرغمة) على تقديمه. في المقابل، ثمة ثلاث أدوات عادة ما تستخدمها إسرائيل في إدارة ملف تبادل الأسرى، وهذه الأدوات قد نجدها في العديد من صفقات تبادل الأسرى التي لها بعد سياسي (لتميزها عن مفاوضات الرهائن في سياقات غير سياسية).
أولاً: إلى جانب اللاعبين الرئيسيين في مفاوضات تبادل الأسرى (في حالتنا: الحكومة الإسرائيلية وقيادة كتائب عز الدين القسام في قطاع غزة)، هناك العديد من اللاعبين الآخرين الذي قد يكون إشراكهم في المفاوضات عاملاً مهماً. حالياً، تستخدم كل من إسرائيل وحركة “حماس” قنوات إضافية، مثل الوسيط القطري، والمصري، والمخابرات الأمريكية. بعض هؤلاء اللاعبين على علاقة بطرف واحد، وبعضهم على علاقة بطرفين، وإسرائيل تستخدم قنواتها الدبلوماسية، ومنظومتها الأمنية- السياسية، لجعل دور أي لاعب إضافي بمثابة عامل “مغير للعبة” لصالحها، وذلك بحسب قدرتها.
ثانياً، التفاعل الإعلامي مع قضية الأسرى، ففي حالة الجنديين الإسرائيليين أورن شاؤول وهدار غولدين، واللذين أسرتْهما “حماس” في حرب العام 2014 (وغير معلوم ما إذا كانا على قيد الحياة)، فإن إسرائيل استطاعت أن تضبط التفاعل المجتمعي مع قضية إطلاق سراحهما من خلال تقييد الاحتجاجات، تقنين عمل وسائل الإعلام للحيلولة دون إبراز القضية بشكل مستمر. وبالتالي منحت إسرائيل نفسها مساحة مريحة للتفاوض مع “حماس” بعيداً عن ضغط الشارع.
في ما يخص قضية الأسرى الإسرائيليين بعد 7 أكتوبر، فإن قدرة إسرائيل على ضبط الشارع تكاد تكون صفراً، خصوصاً لأن هناك أطفالاً ونساء من بين الأسرى، كما أن عددهم الكبير يجعلهم قضية رأي عام غير قابل للضبط.
ثالثاً، ومع فتح القنوات الجانبية للتفاوض غير المباشر، فإن إسرائيل تستخدم الآلة العسكرية لتقييد قدرات “حماس” على التفاوض بشكل مريح. فقد أعلن وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، بالإضافة إلى معظم قادة الأجهزة الأمنية، بأن للمناورة البرية هدفين: ليس فقط إنهاء قدرات “حماس”، وإنما أيضاً توفير شروط أفضل بالنسبة لإسرائيل لاستعادة أسراها.
ويتابع تقرير “مدار”: “قد يكون التوغل البري، والتدمير شبه الشامل للبنية التحتية للقطاع، وتواجد عشرات الآلاف من الجنود الإسرائيليين داخل أرض المعركة، عوامل ضغط على حركة “حماس”، وهذه قضية تحتاج إلى تحليل عسكري للوقوف على دلالاتها ومعانيها، ليس هنا مجال عرضه”. ويستذكر التقرير قائمة بصفقات التبادل التي أجرتها إسرائيل منذ العام 1948، مع الإشارة لجوهر تفاصيل كل صفقة.
القدس العربي