
في خطوة تشكل استمرارا للخطوات السابقة المناهضة للوجود الفرنسي بالمنطقة، قرر قادة دول مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو الانسحاب من المنظمة الدولية للفرانكفونية، الموجود مقرها بباريس، والتي تعتبر إحدى الأذرع الفرنسية الناعمة في المنطقة.
وقد بررت الأنظمة العسكرية الحاكمة بالدول الثلاث في بيان الانسحاب الموقع من طرف وزراء خارجيتها، قرار الانسحاب بمجموعة من العوامل، أبرزها أن المنظمة أضحت “أداة سياسية يتم التحكم فيها عن بعد”.
وأكدت البلدان المنضوية تحت لواء “تحالف دول الساحل” أنها “ساهمت تاريخيا في تأسيس هذه المنظمة”، لكن الأخيرة وبدلا من دعمها “في تحقيق الأهداف المشروعة لشعوبها” في إشارة إلى الانقلابات العسكرية التي أوصلت جنرالي مالي والنيجر ونقيب بوركينا فاسو للسلطة، فإنها عملت على “التطبيق الانتقائي للعقوبات على أساس اعتبارات جيوسياسية واستهتار بالسيادة”.
ويعكس قرار المجالس العسكرية ظاهريا أنها مستاءة من موقف المنظمة الدولية للفرانكفونية تجاه انقلابات القادة العسكريين، ومعاقبة بلدانهم بتعليق عضويتها إلى حين عودة المدنيين للسلطة، وهو قرار اتخذه كذلك الاتحاد الإفريقي، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
ولكن القرار في واقع الأمر يشكل امتدادا لقرارات سابقة عديدة، فالعسكريون منذ وصولهم إلى السلطة بنوا توجهاتهم الرئيسية في السلطة، على مناهضة الخضور الفرنسي في بلدانهم، وتحميل فرنسا مسؤولية كل المشاكل القائمة من انعدام للأمن، وغياب للتنمية، ومصاعب اقتصادية.
وقد نجحوا بذلك في كسب تأييد شعبي واسع في دولهم، بل وفي مناطق مختلفة من القارة الإفريقية، وبات ينظر إلى هؤلاء القادة العسكريين ك”فاتحين” جدد.
وهكذا شرع العسكريون عمليا في القطيعة مع كل ما يتعلق بفرنسا، خصوصا بعدما اتضح أنها تعارض انقلاباتهم العسكرية، بل وتضغط من أجل عودة المدنيين للحكم.
وكانت دولة مالي سباقة إلى اتخاذ الخطوة الأولى، فألغى رئيس مجلسها العسكري الجنرال عاصيمي غويتا اتفاقية التعاون العسكري التي بررت وجود فرنسا عسكريا في البلاد على مدى عقد من الزمن، ودعا القوات الفرنسية إلى مغادرة الأراضي المالية، كما طرد لاحقا السفير الفرنسي في باماكو.
وتلتها بوركينا فاسو في ظل حكم النقيب الحالي إبراهيم تراوري، حيث اتخذ ذات الخطوة، ثم لاحقا وبعد انقلاب جيش النيجر على الرئيس المدني محمد بازوم أواخر يوليو 2023، اتخذ الجنرال عبد الرحمن تياني نفس الإجراء، بل إن أنصار الجنرال ورفاقه في نيامي أمضوا أسابيع وهم يتظاهرون أمام مبنى السفارة الفرنسية للمطالبة برحيل السفير، الأمر الذي كانت ترفضه باريس قبل أن تستسلم لاحقا للأمر الواقع.
وبعد مرحلة طرد القوات العسكرية والسفراء، جاءت مرحلة “السيادة الاقتصادية”، فتبنت الدول الثلاث خيارات منسجمة مع المسار الجديد المناهض لفرنسا، وتم طبقا لذلك إحكام السيطرة على المناجم من خلال إبدال الشركات الفرنسية العاملة هناك بشركات وطنية أو أجنبية، ولكن الأمر لم يستهدف فرنسا بوحدها، وإنما شمل شركات أجنبية أخرى أسترالية وكندية وجنوب إفريقية، وغيرها.
وقد ألغت النيجر رخصة التشغيل لدى شركة “أورانو” الفرنسية لإنتاج الوقود النووي في أحد أكبر مناجم اليورانيوم في العالم.
وفي أواخر فبراير الماضي، أعلنت شركة “توتال” الفرنسية تحت الضغط، الخروج من سوق بوركينافاسو وبيع أصولها واستثماراتها لمجموعة محلية، وكانت قبل ذلك قد انسحبت من مالي، والنيجر، وتشاد، وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وتلت مرحلة السيادة الاقتصادية، أو تمت بالتوازي معها مرحلة “السيادة الثقافية”، فأعادت السلطات الانتقالية بالبلدان الثلاثة تسمية عشرات الشوارع الرئيسية والساحات العمومية، التي ظلت لعقود تحمل أسماء شخصيات فرنسية، بأسماء شخصيات محلية أو إقليمية.
ومن ذلك مثلا، أن شارع “لويس فيديرب” في باماكو بات يحمل اسم “مامادو لامين درامي”، وشارع “ديغول” في نيامي بات يعرف بشارع “جيبو باكاري”، واستُبدل شارع “ديغول” في واغادوغو باسم “توماس سانكارا”.
وإلى جانب هذه القرارت المناهضة بشكل مباشر لفرنسا، انسحبت مالي والنيجر وبوركينا فاسو من منظمة “سيدياو”، ومن ضمن المسوغات التي قدمت لذلك، اتهامها المنظمة بالتبعية لفرنسا.
وتعكس كل هذه الخطوات وربما أخرى قادمة، تبني الأنظمة العسكرية مقاربة جديدة لم يسبق لدول المنطقة اتخاذها ضد فرنسا، سواء في ظل الأحكام المدنية أو العسكرية.
محفوظ ولد السالك
مدار