حين التحقت بالإذاعة متدربا صيف عام 1982 كنت دون العشرين من عمري، بينما تفيد أوراقي بأكثر من ذلك استعجالا مني لسن الرشد القانونية. وكان صديقي العزيز وزميلي المحترم أحمد ولد الحباب (أو حباب كما كنا نختصر اسمه) شابا في مقتبل عمره موظفا هناك منذ عدة سنوات.
كان الجانب الأهم من عملي يومئذ في البرامج الأدبية التي كان نصيب الأسد من عطائها مخصصا للإشادة بالهياكل الناشئة والتطوع وقصر الشعب.. ونحوها من الاستهلاكيات. وربما كنت سأنجرف في التيار مع غيري فأنا في أوائل خطاي وتجربتي 0 والسلم متحرك..
نصحني حباب (رحمه الله) في وقفة جانبية بعدم ربط إنتاجي الأدبي بالمتغيرات، وبالكتابة في الصحف؛ فقبلت النصحين شاكرا وألزمت نفسي فعلا بالأول إلى اليوم (وإلى أن أموت بإذن الله) أما الثاني فلم يكن ممكنا داخليا لذي تعليم عربي، لأن المتاح يومها الطبعة الفرنسية من جريدة الشعب (قبل تسميتها أوريزون) فقد كانت طبعتها العربية متوقفة من نهاية مارس 1981 ولم تعاود الصدور إلا في الخامس من مايو 1983. ولعل في امتهاني الكتابة (بعد ذلك بمدة) امتثالا لنصحه الثاني.
غادرت الإذاعة في نهاية العام ذاته، وسلكت تعاريج مختلفة من دروب الحياة، ثم كررت إليها في صيف عام 1991 وحسبت الثقافة أنسب لي لاعتبارات ليس أهونها ابتعادها عن الابتذال، وخفة ضغط الحكام عليها (هكذا ظننت).
عدت إلى الإذاعة إذن فوجدت نفسي في مجموعة البرامج الثقافية برئاسة الأستاذ أحمد ولد الحباب! ما أطيبها من فرصة!
كنا أربعة ننتج مادة برنامجين وجزءا من مادة ثالث، وخبرت رئيسي المباشر عن قرب، فعرفت فيه شيما يسعد المرء بمعية المتصف بها: التواضع، الخبرة، المسؤولية، الهدوء عند اشتداد الأمور، الحلم، الأناة.. إلخ.
من ذلك أنه كان ربما أنتج المادة فاقتضى تنويع الأصوات إسناد قراءتها لغيره، فكان يعبر بصيغة مبهمة توهم غير المطلع أن المادة من إنتاج قارئها؛ كأن يقول: "الإجابة مع الزميل فلان".
أذكر هنا أنني صيف 1992 استعرت من مكتبة الإذاعة مادة صوتية يتطلبها العمل ولم تكن المكتبة محوسبة بعد، وكانت الشروط صارمة؛ فالمستعير يوقع التزاما بإعادة الشريط أو الموافقة على اقتطاع قيمته من دخله الشهري؛ وهو التزام مطاط لعدم وجود ضابط لتقويم المواد التي كان بعضها ثمينا دون شك.
حملت الشريط وسلمته إلى المهندس مبينا له المطلوب منه، ثم دخلت إلى الجانب الآخر من الاستديو، وأثناء التسجيل غاب المهندس كعادة زملائه (وهي ذريعة لإبراء ذمته عند الاقتضاء) ثم عاد قبيل فراغي.
أنهيت التسجيل فلملمت أوراقي وخرجت فسلمني المهندس التسجيل الجديد دون القديم الذي أبدى استغرابا لفقده، وتظاهر بالبحث عنه في أرجاء الاستديو دون جدوى. ولأن الزجاج فقط هو ما يفصل بيني وبينه كنت موقنا أن غيره لم يدخل الاستديو، ولكن ما حيلتي؟ أنا حديث عهد وسن، ومركزي لا يقوى على استخراج هذه الخبيئة، ودخلي لا يقوى على تحمل التبعة، وإن كان وصمي بعدم الأمانة أقسى علي!
أثناء ذلك استبطأني حباب فقصد الاستديوهات بحثا عني فوجد الحال كما وصفته فجلس بهدوء وأمرني بترك الأمر له فانصرفت، وتابعه حتى استخرج الشريط من حيث دسه المهندس الخائن، وأعاده إلى مسؤول المكتبة (محمد المختار ولد الشريف الطاهر رحمه الله) ولم ألق سوءا ولا عناء بعد قدومه.
أذكر أيضا أنه كان أحد ثلاثة مسنين (رحمهم الله) في قطاع البرامج يروّحون عن أنفسهم بدعابات تمتعنا معشر الشباب، وإن لم يكن لنا أن ننبس ببنت شفة احتراما لفرق السن. كان أحدهم فظ الطبع إلى حد ما، فكان الآخران يسميانه بوكاسا في غيابه ويدعوانه بالحاج في حضوره. (كان بوكاسا إمبراطورا لوسط إفريقيا، ويقال إنه في تلك الفترة عامل طلاب بلاده بوحشية وصلت أكل لحم بعضهم، وكان القذافي يلقبه الحاج).
أما حباب فكان زميلاه يدعوانه الرفيق انطلاقا من تاريخه في حزب الكادحين. (ونسيت ما يتعلق بالثالث(.
بعد سنوات زاد تمييع الثقافة عن حده، واستفحلت الجهوية والمحسوبية ضاق رؤسائي في الإذاعة (سوى حباب) ذرعا بوجودي بينهم، فكان علي أن أنحني للعاصفة أو أغادر مرفوع الرأس، فاخترت هذه غير نادم.
خارج الإذاعة دخلتُ اتحاد القوى الديمقراطية مع المستقلين بقيادة السيد أحمد ولد داداه (حفظه الله) 1992 فوجدت حبابا من بين المؤسسين على ما أظن، واستمرت زمالتنا هناك إلى انقسام الحزب المذكور فكان كل منا في أحد الشقين دون أن يفسد ذلك للود قضية. بقيت في شِقِّي إلى أن حل الحزب، فتحللت من كل التزام حزبي وصرفت عناني إلى ما رأيته أجدى، أما هو فبقي إلى النهاية في شقه الذي صار حزبا قائما بذاته (UFP).
هذا المساء علمت بوفاة أخي وصديقي وزميلي العزيز أحمد ولد الحباب، فسطرت هذه الكلمات على عجل.
رحمه الله وبارك في أهل بيته الأحبة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.