بن بيه يرسم مهام مجلس الإفتاء الإماراتي ويحدد مواصفات وشروط المفتي

اثنين, 07/09/2018 - 14:28

أكد معالي الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، أن قرار القيادة الرشيدة في دولة الإمارات؛ بتشكيل مجلس الإفتاء يشكل خطوة جديدة في إطار نهج التسامح وفلسفة التعايش السعيد، الذي وضع لبناته الأولى مؤسس الدولة (المغفور له بإذن الله) الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وأخوانه المؤسسون الأوائل من حكام الإمارات.

واعتبر بن بيه أن القرار يواجه انحراف مسار الفتوى، الذي صار بمثابة سلاح للمتطرفين وحملة الفكر المأزوم؛ بكل أطيافه وتمظهراته، سلاح استباح الأديان وجنى على الإنسان، فاصطلت بناره كليات الشريعة، واجتثت به جزئياتها ومفاهيمها، وانبتت نصوصها عن سياقاتها، ولذلك يبدو الواقع اليوم ملحاً إلحاحا لا ينتظر تنظيرَ المنظرين ولا تأصيلَ المؤصلين، واقع معقد في تركيبته، وفي إكراهاته، وفي تقلباته وتغيراته،  وهو ما يلزم الدولة في المجتمعات المسلمة أن تستعمل نفس السلاح في مواجهتها المباشرة وغير المباشرة للتطرف، وفي تدخلاتها العلاجية والوقائية الاستباقية ضد ثقافة العنف والكراهية والإرهاب، وتحصين المجتمع بفتاوى رصينة ضد الفتاوى المارقة التي تفضي إلى المفاسد دون المصالح، وتغذي نيران الحرب المجنونة بدل السلم بيئة كل الحقوق، ومظلة لكل مكونات المجتمع.

جاء ذلك في مؤتمر صحافي عقد في فندق "سانت ريجيز" في أبوظبي؛ بحضور رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي فضيلة الشيخ عبدالله بن بيه؛ وبمشاركة الدكتور محمد مطر الكعبي رئيس هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وحضور أعضاء المجلس: الشيخ عمر الدرعي، الشيخ أحمد عبد العزيز الحداد، الشيخ سالم محمد الدوبي، وشما يوسف الظاهري، وإبراهيم عبيد آل علي، وعبدالله محمد أحمد الأنصاري، وأحمد محمد الشحي، وحمزة يوسف، وأماني برهان الدين.

وقال الشيخ ابن بيه إن قرار مجلس الوزراء في دولة الإمارات العربية المتحدة، الذي شكل مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، يأتي في عام زايد، عام الوفاء؛ لمنهج التسامح والاعتدال والحكمة، في سياق تحقيق غاية ضبط الفتوى ومأسستها؛ ليمثل مع غيره من المؤسسات في الدولة سياجا وحصنا من الفتاوى المارقة، والتيارات الهدامة التي تهدد الأمن الروحي والسلم الأهلي والاجتماعي والإقليمي بل والدولي، ولا يقف هذا المجلس عند هذه الغاية، بل سيكون معلما وملهما ليس فقط للعلماء المفتين في هذه الدولة الكريمة المباركة، ولكن لنظرائهم وزملائهم، والمجالس والهيئات الأخرى في العالم الإسلامي التي سيكون محاورا لها، ومشاركا معها كما نص على ذلك القانون التأسيسي.

فقد كانت دولة الإمارات سباقة في تنظيم مراكز الفتوى لتقدم الخدمة الدينية للمواطن والمقيم إرشاداً وهداية وتوجيهاً ونصحاً حيث ينشر المفتون، وهو سعي محمود وجهد مشهود، وهو ما يتوج اليوم بإنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي لرفع مستوى الرعاية والعناية التي توليها دولتنا حرسها الله لهذا القطاع الحساس دينيا ووطنيا، وذلك للتأكيد على الاختصاص الحصري في إصدار الفتاوى العامة الشرعية لمجلسكم هذا الذي أنيط به أيضا ضبط الفتوى الشرعية وتوحيد مرجعيتها وتنظيم مسؤوليتها وتأهيل المفتين وتدربيهم.

وقال الشيخ ابن بيه مخاطباً أعضاء المجلس: إنها صلاحيات يشرف مجلسكم الموقر أن تناط بعهدته، وأن يكون محل ثقة قيادة دولتنا -وعلى رأسها رئيس الدولة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد، حفظه الله، ونائبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وسائر شيوخ الإمارات.              الفتوى وفقه الواقع

وأوضح الشيخ ابن بيه أن مهمة الفتوى تنزيل أحكام الشرع على واقع المكلفين، ولذلك فهي ترتبط بحياة الناس ومعايشهم، ومصالحهم في العاجل والآجل. ما يحتم على المفتي مراعاة مقاصد الشارع. وهو ما قام به المفتون؛ منذ العهد النبوي، والصحابة رضي الله عنهم، وخاصة الخلفاء الراشدين الذين كانوا يحققون مناطات النوازل بناء على الواقع، وتبعا لظروف تغيرت وأحوال تطورت.

علاقة الواقع بالفتوى

وقال الشيخ ابن بيه إن المطلوب من المفتي هو معرفة الواقع بكل تفاصيله، وليس الواقع بمعنى اللحظة الحاضرة، ولكنه الواقع الذي يعني الماضي الذي أفرز الحاضر وأسس له، والذي من دون تصوره لا يمكن تصور حاضر، هو امتداد له وحلقة من سلسلة أحداثه وإحداثياته. غير أن ذلك لن يكون كافيا دون استشراف مستقبل تتوجه إليه تداعيات الحياة وتفاعلات المجتمعات، وذلك ما نسميه بالتوقع.

وأوضح الشيخ ابن بيه أن الواقع الذي يبحث عنه الفقيه هو الذي يحقق العلاقة بين الأحكام وبين الوجود المشخص، لتكون كينونتُها حاقةً فيه، أي ثابتة ثبوتاً حقيقياً، يتيح تنزيل خطاب الشارع على هذا الوجود سواء كان جزئياً أو كلياً، فردياً أو جماعياً، وذلك يفترض مراحل تبدأ من ثبوت حكم موصوف لتنزيله على واقع مشخص معروف.

واعتبر الشيخ ابن بيه أن الواقع هو الإنسان فرداً ومجتمعاً، ولهذا فإنَّ المناط لا يتحقق إلا بالإنسان، ومن خلال الإنسان نفسه، فهو المحقق الأول والأخير، لأنه الفاعل والمحل. وهذا يعني أن علاقة الفتوى بنوازل الواقع تنبع من كونها "المؤطر القانوني للنشاط الاجتماعي والاقتصادي" كما يقول جاك بيرك؛ باعتبارها تتعلق بـ"مشكلة عقائدية أو أخلاقية يصطدم بها المسلم في حياته اليومية، فيحاول أن يجد لها حلا يتلاءم وقيم المجتمع بناء على قواعد شرعية"، حسب عبارة روجي ادريس.

ولاحظ الشيخ ابن بيه أن العولمة أنتجت واقعا جديدا معقدا، فرض نفسه على الدول والمجتمع والأسرة والتعليم، والسياسة والاقتصاد؛ بصور مغايرة للصور التي نزلت فيها الأحكام الجزئية. ما يعني أنه ليس أما المفتي سوى فهم الواقع بتركيبته ومتغيراته وإكراهاته، المرتبط بتركيبة الكينونة البشرية في سعتها وضيقها، ورخائها وقترها، وضروراتها وحاجاتها، وتطوراتها وسيروراتها.

ويتعين على المفتي الحرص على تطابق كامل بين الأحكام الشرعية وتفاصيل الواقع، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد في الواقع وبين الدليل الشرعي. والتدقيق في الدليل بشقيه الكلي والجزئي، وفي الواقع والمتوقع بتقلباته وغلباته، والأثر المحتمل للحكم في صلاحه وفساده، بحيث لو تنزل بالفعل كان محموداً، جار على مقاصد الشريعة، حسب عبارة الشاطبي.

وتحدث رئيس " مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي معالي الشيخ عبدلله بن بيه عن العلاقة بين الواقع والفتوى، وكيف يتعرف المفتي على الواقع؟ فقال إن المجتهد أو المفتي يتوسط بين النص وبين الواقع، فإذا كان الحكمُ يُعرف من خلال النصوص الشرعية وما يستنبط منها، فإنّ الواقع بحاجة إلى مُعرِّفات وهي الموازين الخمسة عند الغزالي في كتابه "أساس القياس"، وقد جعلها معيارا للتحقق من الواقع المؤثر في الأحكام، ويمكن تسميتها بمسالك التحقيق، وهي: اللغوية، والعرفية، والحسية، والعقلية، والطبيعية. ويمكن أن نضيف إليها ميزانَ المصالح والمفاسد، والنظر في المئات، واعتبار الحاجات في إباحة الممنوعات؛ كاعتبار الضرورات في إباحة المحظورات، كما يقول ابن العربي. موضحاً أن هذه المسالكَ تشرح الواقع وتفسره، وهي بمنزلة القول الشارح عند المناطقة، وإذا اعتبرنا المصالح والمفاسد من حيث إدراكُها بالعقل داخلةً في العقلية، واعتبرنا الاكتشافاتِ العلميةَ راجعةً إلى الطبيعية، وهي العلوم الطبية أو طبيعة الأشياء، كان هذا الميزان حاوياً بل حاصراً لأدوات تحقيق المناط، الذي يعمل في ثلاثة مجالات: في الأشخاص، وفي الأنواع، وفي الأحوال، وهو بذلك يعتبر الاجتهاد الثالث إلى جانب الاجتهاد في دلالات ألفاظ النصوص، والاجتهاد في المصالح والمفاسد المتعلق بالمعاني والمقاصد، فهو نظر في طبيعة التكليف، وفي أحوال المكلفين مجتمعا وأفرادا، فيكون في الذوات والصفات والمعاني، فهو مجمع العزائم ومنبع الرخص...هو حكم على الأفعال، وعلى الأشياء وهو المبرهن على ديمومة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان