مما يندى له الجبين و ينفطر له القلب و تتبخر معه الآمال رؤية الداخل، من كل القطاعات العمومية مصالح و مستشاريات، يتحرك سلبيا بمنطق البيع و الشراء و الزبونية و المحسوبية و قد أضحت ميزان التاعمل المختل و ممر الوصولية الأوحد. و لا تكاد تلقى موظفين جاءت به سبل المحاصصات الموسمية و النعرات السياسية بكل أوجهها النتنة (أمناء عامون، مستشارون فنيون، قانونيون، ماليون، مخططون و اجتماعيون...) إلا و هم غارقون إلى الودجين في وحل التحصيل المادي من خلال "الفوترة" المغدقة على خلفية النشاطات المبتذلة الملفقة و الأعمال التحسينية الوهمية من ناحية، و بأسلحة الوساطة لتوظيف الأهل و الأقارب و الحلفاء، و لعلاج المعتلين منهم في الخارج و لتسجيل الأولاد جورا و حيفا في المدارس المتميزة و تجاوزهم في الإمتحانات على ضعف مستوياتهم، و للحصول على القطع الأرضية من الولاة و الحكام و للولوج إلى التراخيص الممتنعة للتنقيب و التمثيل، و الأذون لممارسة أنشطة محظورة أو مشبوهة، و للإعفاء من الضرائب و تقليص فواتير الطاقة و حسابات الماء؛ و يتم كل هذا النشاط البركاني المحموم المدمر يوميا لا انفصام في أوجهه المتعددة و تدور رحاه حتى قبيل دخول مرحلة الإقصاء القريبة في دورة النسف المستمرة. و إن المؤسف المؤلم أيضا أنه على هامش هذه الحركية النووية ترى الإرادات المتميزة و القدرات العالية و الطلقات الإيجابية الخائلة مقصية، مكبلة و مهانة لا تستشار و لا ترقى.
هل ندرك خطورة الفقر و الغبن؟
في يوم تحتفل فيه جميع تادول بـ"اليوم العالمي لرفض البؤس Journée mondiale du refus de la misère la " لا تهتز شعرة لأغنياء هذا البلد "المسلم" و المهيمنين فيه على كل الثروات. بل إن أحدهؤلاء قال عندما طلب إليه أن يقوم بعمل خيري يخفف من وطأة الفقر على بعضهم رد مستهزء ضاحكا: لماذا أحارب فعل الله في بعض عباده، ناسيا أنه سقط في امتحان الصدقة و الإحسان و تزكية النفس و المال. نعم نحن أمة لا تسعى في غالبها إلى العمل الإنساني مطلقا و تستخف بشاعاراته، بل لا يريده ميسورو الحال فيها لحاجة الترفع على العامة المعدمة إذلالا و استعلاء. إنها حالة نفسية من إفرازات التراتبية و صراعات الطبقات و حالة الظلم المنتشرة منذ أيام السيبة فيها و علامات التباين الصارخة التي لا يهدأ في النفوس قرع طبولها على إيقاع الماضي النشاز. فهل ننتبه إلى خطورة الفقر الذي يولد البؤس و نحتفل غير بعيد بيوم القضاء عليه؟ و الواقع الماثل يوحي بأن كل المؤشرات تستبعد ذلك اليوم.
أسر الأرشيف في معتقل الماضوية
في حين تعاتب شعوب غيرنا و عن وعي متنور و إدراك و جدارة حكامَ و مؤرخي و مثقفي بلدانهم على حجب الوثائق التاريخية و تحوير بعضها و تزوير الآخر ـ الحديث منها نسبيا و القديم ـ و هي تدرك جيدا أهمية هذا الأمر في تحديد الشخصية و ترسيخ الهوية و بناء الحاضر و استشراف المستقبل، نجد نحن أنفسنا في هذه البلاد الهلامية أمام سؤال نستحي حتى من طرحه و نتخبط في وحل تجاوزه الآسن : هل نملك أرشيفا؟ ثم لا نطرح من بعد هذا السؤال أسئلة مندرجة تحت معناه واردة تطرح نفسها: أين هذا الأرشيف؟ ما هو محتواه؟ أية فترات زمنية يغطي؟ ما هي مصادره؟ من يشرف عليه؟ ما هي آليات الوصول إليه؟ ما المستور الذي يحتوي و يُخاف من كشفه؟ في العالم من حولنا يُفرج بعد عقد أو عقود معلومة عن أرشيف الحقبة السابقة لينهل الباحثون و المؤرخون و الاجتماعيون و غيرهم لتصحيح مسارات التاريخ و توجهات التنمية. أم هل أن كتبة التاريخ التمجيدي بنمطق المثالية الأسطورية هو الذين يتصدرون المشهد و لا يكفون عن تحدي العلمية و الواقعية بذر رماد الكتب الصفراء في العيون المعصبة؟
الإطراء المفرط.. عقدة نقص أم طبع دفين؟
كثيرون هم الذين يتجشمون عناء الحركة ـ في زحمة العاصمة المرهقة بفوضويتها و تلوث أجوائها و المخيبة لآمال التحصيل السهل ـ لحضور فعاليات أو تظاهرات أو ندوات و قد حسنوا للمناسبة من هندامهم فارتدوا حللا قشيبة و تهيبوا بعناية فائقة. لكن هؤلاء لا يلبثون أكثر من وقت تقديم المنظمين و أصحاب الربط المفوهين شخصياتهم للجمهور بكل صفات المدح و الإطراء و التبجيل و نعوت التعظيم و أوصاف التفخيم: مفكرين و علماء و شعراء و كتابا و محدثين و خطباء و محللين و سياسيين ألمعيين و بناة مجيدين و منظرين ومجددين و فرسانا و معلمين.. و الأمر العظيم يكون في أغلب الحال دون ذلك.. و تراهم - إلا ما رحم ربك - يميسون طربا ميس شراب الرحيق ذات اليمين و ذات الشمال من فرط الغبطة و الرضا، ثم يُعطَون سبق الكلام المقصود و السعي المرصود لرفع سهم التظاهرة و ستر عقدة النقص و لتلميع الجهة المنظمة، فتراهم بعد الاجتهاد و التقعر لا يقدمون أحسن مما يصدر بعدهم من مشكاة غيرهم من الباقين إلى نهاية الندوة أو الحفل أو التأبين.
الحسد توقيع على سواد الزوال
أثناء ندوة تأبينية للمرحوم و الغفور له الرشيد ولد صالح قال السفير و الوزير سيد أحمد ولد الزحاف في معرض شهادته التي أدلى بها "إن الرجل عاش خاليا من عقدة "الحسد".. ذلك المرض العضال المتمكن من القلوب فينا، الجاري في الطباع مجرى الدم من العروق، يعلو و يهبط مع الأنفاس، السارية على الألسنة بلواه"، الممسك بنا عن التحليق في عوالم الإبداع و إقامة بناء البلد على الأسس الصحيحة الصلبة... نعم هو الحسد يطال من المرء ظِلَّه بعد أن كان يتبعه في أول النهار هزيلا قصيرا، و ينظر إليه بحنق بعد أن يساوي قامته، لكنه بعد أن يتجاوزه يكره و يتمنى زواله فيحاربه و يهرب منه بكل عنفوان الكبر و تضخم الأنا إلى النواحي المظلمة حتى يغيبه عن بؤر الضوء فلا يقاسمه إياه... الحسد بدافع الكبر هزال.. و الكبر بسبب الحسد داء عضال و توقيع على سواد الزوال.