عبد الناصر وثورة 23 يوليو أمة تلد القمم (ح2)

جمعة, 07/29/2016 - 13:08
باباه ولد التراد

بعد التجربة التي مر بها جمال عبد الناصر في العمل السياسي ، واتصالاته المكثفة بقادة الاحزاب في بلاده ، أيقن هذا القائد العظيم أن تحرير مصر لن يتم بالخطب وحدها ، بل يجب أن يقابل الاحتلال العسكري بجيش وطني ، لذلك فإن عبد الناصر لما أتم دراسته الثانوية وحصل على البكالوريا ، قرر الالتحاق بالجيش .

وفي هذه الفترة كان جمال عبد الناصر يعيش بالقرب من دار الكتب المصرية ، وقد قرأ العديد من كتبها النفيسة ، ويعتقد أنه تأثر كثيرا برواية "عودة الروح" للكاتب المصري توفيق الحكيم، التي يقول فيها إن المصريين كانوا فقط بحاجة إلى " الإنسان الذي سيمثل جميع مشاعرهم ورغباتهم ، والذي سيكون بالنسبة لهم رمزا لهدفهم"  ، كذلك فقد تبين من لائحة الاستعارة من مكتبة الكلية الحربية التي دخلها سنة 1937 أن جمال عبد الناصر  قد قرأ عن سير عظماء التاريخ وبعض الزعماء القوميين مثل   "الإسكندر" و"جاليباردى" و"بسمارك" و"نابليون و" أتاتورك" و"هندنبرج" و"فوش" و"تشرشل "و "مصطفى كامل" .

 وبما أن عبد الناصر قد أدرك أن تحرير مصر من الاحتلال العسكري الابريطاني لن يتم إلا بواسطة جيش وطني قوي فقد وضع أمامه هدفا واضحا وهو أن يصبح ضابطا ذا كفاية وأن يكتسب المعرفة والصفات التي تسمح له بأن يصبح قائداً لجيش عظيم ، و منذ ذلك الحين ركز جمال على حياته العسكرية ، وفعلاً أصبح "رئيس فريق"، وأسندت إليه منذ 1938 مهمة تأهيل الطلبة المستجدين الذين كان من بينهم عبد الحكيم عامر.

وطوال فترة الكلية لم يوقع على جمال أي جزاء، حتى تخرج ضابطا عام 1938م ، وتدرج بعد ذلك في الرتب والمواقع العسكرية ، فقدعين بسلاح المشاه في أسيوط ، ثم نقل إلى السودان وخدم في الخرطوم وفى جبل الأولياء.

وبينما كان "روميل" يتقدم نحو الحدود المصرية الغربية عاد جمال عبد الناصر إلى مصر فى نهاية عام 1941 ونقل إلى كتيبة بريطانية تعسكر خلف خطوط القتال بالقرب من العلمين ، وفي هذه الأثناء حاصر السفير البريطاني بالدبابات قصر الملك فاروق بسراي عابدين في القاهرة وسلمه إنذاراً يخيره فيه بين تشكيل مجلس وزراء متعاون مع بريطانيا وبين الخلع ، وقد كان لهذا الحادث تأثير كبير على الضباط ، حتى أصبحوا يتكلمون عن التضحية والاستعداد لبذل النفوس في سبيل الكرامة.

وقد وصف جمال عبد الناصر شعوره في تلك الفترة بقوله : " في هذه المرحلة رسخت فكرة الثورة في ذهني رسوخاً تاماً، أما السبيل إلى تحقيقها فكانت لا تزال بحاجة إلى دراسة، وكنت يومئذ لا أزال أتحسس طريقي إلى ذلك، وكان معظم جهدي في ذلك الوقت يتجه إلى تجميع عدد كبير من الضباط الشبان الذين أشعر أنهم يؤمنون في قراراتهم بصالح الوطن؛ فبهذا وحده كنا نستطيع أن نتحرك حول محور واحد هو خدمة هذه القضية المشتركة ".

 واستجابة لهذه المشاعرظهرت ملامح تنظيم الضباط الاحرار في الجيش المصري ، فقد بدأ عبد الناصر بتشكيل مجموعة من ضباط الجيش الشباب الذين يملكون مشاعر قومية  ، وكانت الفترة ما بين 1945 ـ1947 هي البداية الحقيقية لتكوين نواة تنظيم الضباط الأحرار، وكان معظم الضباط الذين أصبحوا- فيما بعد- اللجنة التنفيذية ، يعملون في العديد من الوحدات القريبة من القاهرة، وكانت تربطهم علاقات قوية بزملائهم، فكسبوا من بينهم مؤيدين ، غير أن فكرة إنشاء تنظيم ثوري سري في الجيش، لم تنضج إلا في صيف 1949  ، حيث قام عبد الناصر بتنظيم " لجنة تأسيسية للضباط الأحرار"، تتألف من أربعة عشر رجلاً من مختلف الخلفيات السياسية والإجتماعية ،  واعتمد هذا الفريق اسم "حركة الضباط الأحرار" .

وفي تلك الأثناء كان الكثير من هؤلاء الضباط منخرطين بالفعل في حرب فلسطين ، وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر الذي سافر إلى فلسطين في 16 مايو 1948، بعد أن كان قد رقى إلى رتبة (رائد) في أوائل عام 1948.

وكان عبد الناصر نائبا لقائد القوات المصرية المسؤولة عن تأمين الفالوجة وقد جرح جمال عبد الناصر مرتين أثناء هذه الحرب ، وتمت محاصرة فرقته من قبل الجيش الإسرائيلي، أكثر من أربعة أشهر، وبلغ عدد الغارات الجوية عليها أثناء الحصار 220 غارة ، ولكن الفرقة رفضت الاستسلام. و تحملت القوات المصرية القصف العنيف في الفالوجة ، بالرغم من أنها كانت معزولة عن قيادتها ، وأصبح المدافعون عنها  أبطالا وطنيين حينها ، ونظراً للدور المتميز الذي قام به جمال عبد الناصر خلال هذه المعركة فإنه منح نيشان "النجمة العسكرية" في عام 1949.

وإذا كانت نكبة 1948 التي مني بها العرب في فلسطين كارثة غير مسبوقة في العصر الحديث، إلا أنها بحق كانت الشرارة التي فجّرت عزم هؤلاء الضباط على الثورة ضد الفساد، والظلم والاستكانة والتجزئة ،  فبعد رجوع عبد الناصر إلى القاهرة تأكد له شخصيا ـ على الأقل ـ أن المعركة الحقيقية هي في مصر، فبينما كان هو ورفاقه يحاربون في فلسطين كان الخونة والمرتشون يكدسون الأموال من أرباح الأسلحة الفاسدة التي اشتروها رخيصة وباعوها للجيش ، ومن هذه اللحظة أصبح عبد الناصرمقتنعاً أنه من الضروري تركيز الجهود على إزاحة الملك فاروق .

ومع أن جمال عبد الناصر قد تمت ترقيته فى 8مايو 1951 إلى رتبة (مقدم) فإنه فى نفس العام اشترك مع رفاقه من الضباط الأحرار سراً في حرب الفدائيين ضد القوات البريطانية في منطقة القناة ، و كان ذلك يتم خارج الإطار الحكومي.

وخلال هذه الفترة صدرت منشورات الضباط الأحرار التي كانت تطبع وتوزع سراً، والتي دعت إلى تسليح الجيش وتدريبه بجدية ، كما دعت الحكومة إلى الكف عن تبذير ثروات الشعب. 

وفي هذا الوقت بالذات رشح الملك فاروق اللواء حسين سرى عامر ، ليرأس اللجنة التنفيذية لنادي الضياط ، وقرر الضباط الأحرار أن يقدموا قائمة مرشحيهم ، وقد تم انتخابها بأغلبية كبرى ، إلا ان الانتخابات ألغيت بتعليمات من الملك شخصياً .

عند ذلك  قرر جمال عبد الناصر – رئيس الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار – تقديم موعد الثورة التي كان محدداً لها قبل ذلك عام 1955، خصوصا أن عبد الناصر تلقى معلومات تقول بأن الملك فاروق قد عرف أسماء الضباط الأحرار وسيقوم بإلقاء القبض عليهم، فقام عبد الناصر على الفور بتوكيل مهمة التخطيط للاستيلاء على الحكومة إلى زكريا محي الدين ، بمساعدة وحدات الجيش الموالية للجمعية ، وتحرك الجيش بقيادة الضباط الأحرار ليلة 23 يوليو  1952 ، وتم احتلال مبنى قيادة القوات المسلحة ، وإلقاء القبض على قادة الجيش الذين كانوا مجتمعين لبحث مواجهة حركة الضباط الأحرار بعد أن تسربت المعلومات عنها ، وفى صباح يوم 23 يوليو وبعد احتلال دار الإذاعة تمت إذاعة بيان الثورة التالي:

"اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد، وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إما جاهل أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفى خُلقهم وفى وطنيتهم، ولا بد أن مصر كلها  ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب ".

نعم لقد استقبل الشعب المصري ثورة 23 يوليو 1952 التي قادها تنظيم الضباط الأحرار بزعامة جمال عبد الناصر بالترحيب والاستجابة الشعبية العارمة لأنها كانت ثورة شاملة عبر مجموعة من الإجراءات بدأت بالإصلاح الزراعى ، ثم التخلص من النظام الملكى ، وإعلان الجمهورية وصولا إلى معاهدة الجلاء ، وكسر احتكار السلاح ، وتأميم شركة قناة السويس والصمود أمام العدوان الثلاثى حتى خرجت مصر منتصرة واستردت قناة السويس ، وكان في استقبال إعلان تأميم القناة تأييد واسع من قبل الجماهير في مصر، وفي جميع أنحاء الوطن العربي، ونزل الآلاف إلى الشوارع مرددين هتافات داعمة لهذا القرار ، وكان هذا أكبر انتصار لقومية عبد الناصر العربية في ذلك الوقت،  وكان التبرير الرسمي لتأميم القناة أن الأموال الناتجة من القناة ستستخدم في بناء السد في أسوان ، بعد أن سحبت الولايات المتحدة وبريطانيا فجأة عرضهما لتمويل بناء هذا السد ، حيث أعربتا عن خوفهما من أن الاقتصاد المصري سوف يغرق بسبب هذا المشروع..

وبعد فشل العدوان الثلاثى استعادت مصر استقلالها السياسي، والاقتصادي ، وتغير شكل المجتمع المصرى تماما عن الفترة السابقة على الثورة فى كل المجالات ، وشهدت مصرفي تلك الفترة ذروة النهوض الاقتصادى والاجتماعى والأدبى والفنى والفكرى .

كما أن مصرحققت فى تلك الفترة معدلات نمو اقتصادى غير مسبوقة فقد تم بناء 1200 مصنع من فئة (الصناعات إلاستراتيجية والثقيلة والتحويلية )، وشهدت توسع زراعى غير مسبوق وأحسن معدلات إنتاج للمحاصيل الزراعية ، وقد توج ذلك كله ببناء  السد العالى الذي يُعد من أهم وأعظم الإنجازات ، حيث حمى مصر من أخطار الفيضانات، كما أدى إلى زيادة الرقعة الزراعية بنحو مليون فدان، بالإضافة إلى ما تميز به باعتباره المصدر الأول لتوليد الكهرباء في مصر، وهو ما يوفر الطاقة اللازمة للمصانع والمشروعات الصناعية الكبرى .

كما شهدت تلك الفترة أوسع عملية للحراك الاجتماعى فى مصر عبر مجانية التعليم ، وبواسطة تكافؤ الفرص بين الأغنياء والفقراء ، فقد اهتم عبد الناصر بإنشاء المدارس والمستشفيات ، وتوفير فرص العمل لأبناء الشعب .

كذلك فإن ثورة 23 يوليو 1952  قد عززت دور مصر الاقليمى والدولى ، ففى الوطن العربى ظهر القائد الكبير جمال عبد الناصر كأبرز الزعماء المنادين بالوحدة العربية ، والعمل العربي المشترك معتبرا أن قوة العرب تكمن في توحدهم ، وسعى إلى تحقيق الوحدة مع العديد من الأقطار العربية ، ومن  أبرزذلك  التوجه تجربة الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير 1958م تحت اسم "الجمهورية العربية المتحدة" ، التي  تولى عبد الناصررئاستها ، كما دعم القضية الفلسطينية واعتبرها من أولوياته المبدئية والاستراتيجية ، وكان لعبد الناصر دور بارز ومشهود في مساندة الثورة الجزائرية ، وتبني قضيتها في المحافل الدولية.

كما حشد عبد الناصر الطاقات العربية والدولية لصالح حركات التحرر في العالم الثالث وسعت جهوده للتصدي للإستعمار في أفريقيا وآسيا ، وأعلن رسميا "الحياد الإيجابي" لمصر بشأن الحرب الباردة ، كما لعب عبد الناصر دورا هاما في تعزيز التضامن الأفريقي ، وجعل مصر ملجأ لقادة العالم الثالث المطالبين بالحرية والاستقلال، وسمح للعديد من البلدان الأفريقية ببث الدعاية المناهضة للاستعمار من القاهرة  ، ولعب دورا رئيسيا في المناقشات بين القادة الأفارقة التي أدت إلى إنشاء منظمة الوحدة الافريقية في سنة 1963.

 وبعد مؤتمر باندونج وتشكيل حركة عدم الانحياز كان عبد الناصر يعامل كأبرز ممثلي الدول ، وكان واحداً من الشخصيات الأكثر شعبية في القمة ، وتم استقبال عبد الناصر من قبل حشود كبيرة من الناس غطت شوارع القاهرة لدى عودته إلىمصر.

وهاكذا أصبحت ثورة 23 يوليو 1952 واحدة من أهم الثورات فى العالم بما خلفته من أثار سياسية واقتصادية واجتماعية غيرت وجه الحياة فى مصر وفى الوطن العربي كله ، ووصلت أصداؤها حتى أسيا وأمريكا اللاتينية وكان كاسترو وتشي جيفارا ومانديلا يعتبرون الرئيس جمال عبد الناصر أستاذهم ومثلهم الأعلى ، ويفخر تشافيز بكونه ناصري.

 

[email protected]