مقصلة الغرور على الخواء

ثلاثاء, 04/12/2016 - 19:13
الولي ولد سيدي هيبه

"حجب الشمس بالغربال"

في الساعة التاسعة والدقيقة السابعة صباح يوم 12 ابريل 1961 جرى إطلاق السفينة " فوستوك1"  من محطة "بايكونور" لإطلاق الصواريخ. وبعد القيام بدورة واحدة حول الأرض هبطت السفينة على الأرض في الساعة العاشرة والدقيقة 55 و34 ثانية بعد مرور 108 دقائق. و بدقيقة واحدة مما كان مقررا سابقا أدى خلل في جهاز الفرملة إلى هبوط الكبسولة التي أقلت "غاغارين" في مكان غير الذي كان محددا سابقا. ولهذا لم يكن هناك أحد في استقبال الرائد. و مع ذلك فقد جرى فيما بعد استقبال حافل له بموسكو ليحصل بعده على الشهرة في العالم.

خمسة و خمسون عاما مضت على الحدث البارز، بدرجته العلمية الراقية، الذي كان أهله يومها في أعلى مراتب التفوق المعرفي و التنظيم السياسي و رفاه المدنية قد أشعل حربا تكنولوجية و علمية فضائية و سياسية مع القطب الرأسمالي الآخر المتطور و حربا أخرى باردة تميزت بالرغم من حدة عض فصولها بالحنكة و الخبرة و الرصانة العلمية.

و في ذلك الوقت الذي كان فيه "غاغارين"  يخرج عن  الأرض ليراها من الفضاء، كان أهل هذه البلاد يخرجون لتوهم على أيدي الاستعمار الفرنسي من غياهب التخلف و يأخذون مكانا في صف تلاميذ الفصل الفرنسي ليستنشقوا أولى نسائم المدنية و يتذوقوا جرعات الاستقرار الشافية من دوامة الترحال المرهق ذهنيا و بدنيا و ينعمون بوسائلها المريحة عن شظف العيش و نكده في محيط قليل الرحمة من شدة الجفاف و دوام الوحشة.

خمسة و خمسون عاما هي عمر عديد البلدان مثل بلادنا التي أمسكت بتلابيب العزم و أسباب الحزم  و شمر أبناؤُها عن سواعد الجد بعدما استأصلوا من عقولهم الباطنية أمراض التخلف و القلوب و الغبن ليجنوا لاحقا بعض الثمار و ليستأنسوا برقة المدنية و يرسموا خطط التغيير في أحضان الدولة المركزية التي تكافئ و تعاقب.

و هي ذات الفترة التي قهرتنا فيها عُيُوبُنا و هجرتنا محاسن و بركات الصالحين من أجدادنا فكنا كالغراب الذي لم يحسن محاكاة البجعة في مشيتها و نسي كيف كان يمشي. و هو الحال الذي تعكسه بكل تفاصيل التخلف القائم في السلوك المتسم بالحدة من سوابق و أمراض الماضي الحاضر و التي تسير بها عقلية عصية على التحول بالرغم من انتشار المعرفة و ملامسة وسائل المدنية و خيوط العولمة الزاحفة؛ حاضر هو كذلك يلف بضبابية سميكة كل المستقبل و المصير.

فعن القبلية و العشائرية و الارستقراطية ما زال الحديث يأخذ كل قوته القديمة و يجري نهارا جهارا ليصنع رغما عن كل المدارس السياسية و خطاباتها و فلسفاتها و ما استنسخته من فكر متنور "المحاصصات" التي تحفظ و تؤمن الحصول على توافقات من أنساق و إيحاءات الماضي و تكرس غبنها و حيفها و كل آثار سلخها من حركة التطور و بناء دولة المواطنة العادلة. و هي الممارسات العتيدة أيضا التي تُخَلَدُ بالأهازيج و الأشعار و تَتبِعُ في إفشائها نسقَ غنائيات الماضي المُحرفة في أغلب الأحوال و المرفوعة إلى أسماع و أذهان الذين يقتاتون عليها نهما و يغرقون إلى الودجين في أوهامها و يمرحون تحت تأثير مُسكراتها التي تُصفد الواقعَ عن الإقلاع إلى رحاب الحداثة و المدنية، و تقطعُ بالغفلة عنه نفسَ الحاضر حتى الاختناق، و تكفرُ بالمستقبل إلى حد جهل الاستشراف.

حقيقة دامغة بكل تفاصيل المرارة لكنها، كابسة بكل ثقلها على الأنفاس و مضللة بكل عماها عن جادة الصواب، و باصمة إياه بأصابع الكسل التي لا تخفى، و ناطقة بكل جزئيات التخلف. و لأنه قديم قيل جنت "براقش" على أهلها، فإن البلد مرتهن لٍواقع التخلف عن الركب بما يُقترف من تلكؤ عن ضروب الحداثة البناءة و قد تتجلى بعد عقود خمسة تزيد فوق نصف السادس في غياب ملامح المدنية من عمارة تلائم متطلبات المدنية في السكن اللائق و صروح تعليم تستجيب  لقواعد التربية السليمة و عمارة إدارة  تلبي متطلبات التنظيم و التسهيل بالوسائل المناسبة لضمان حياة المواطن و تأمين مجريات شؤون الوطن، و من طرق و سكك حديد و مطارات و موانئ تضمن انسيابية حركة البناء، و من مصانع و أسواق تحرر من التبعية الاقتصادية و تضمن الندية في التبادل مع الغير.

واقع لا يبدو قريب التغيير بمفارقاته العجيبة من ماضي قريب و حاضر بعيد بخلفية عقلية موغلة في القدم لكنها ملازمة للواقع المرير و واقفة حجر عثرة أمام أي تحول؛ واقع كابس على الأنفاس مثبط لهمم المخلصين لوطن يؤمنون به و معطل للطاقات من جراء مظاهر غرور على الخواء لا تخطئها عين المراقب المتتبع الناقد و لا تنطلي عليه أسطوانة الضعفاء المشروخة من حول العالم الذين يخفون إخفاقاتهم وراء ملامح من توطين نفوس شعوبهم على أنها صاحبة الحضارة الأكثر إبهارا وأنها الأذكى و الألمع و الأعلى حافظة و الأسرع تأقلما مع المعطى العلمي و الفني و الحرفي و الأعلم و الأفقه و الأكثر ضلوعا في الآداب و النقد، و اللائحة تطول بما لا يسعفه واقع الخنوع للتخلف الموازي و الزحف في مؤخر الركب الأممي و الانكفاء عن منطق العصر داخل جلباب الماضي و عن نقد سيئ الأحوال كذلك في غياب مطلق لأي وخز للضمائر و  دون أن تندى الأجبنة ما بين الأصداغ من إسفاف و تضييع للوطن بتقديمه لمقصلة الغرور على الخواء.