تراث إنساني على شفا الاندثار (ح2)

أحد, 04/03/2016 - 03:23
 بقلم محمدُّ سالم ابن جدُّ

الثوب الأسود
مما يثير عجب الغير أن الموريتانيين يرتدون السواد في الظروف الاجتماعية التي يفترض أنها للسرور، وكأن الأمر من اختراعهم دون سلف.
إنها عادة – يا سادتي- متوارثة منذ قرون.. ففي الأندلس كان السواد زي السرور باعتبار البياض لون الحزن (الكفن) وفي ذلك يقول الحصري القيرواني (ت 488هـ/ 1095م):
ألا يا أهل أندلس فطنتم ** لأمر من ذكائكمُ عجيب
لبستم في مآتمكم بياضا ** وجئتم منه في زي غريب
صدقتم فالبياض لباس حزن ** ولا حزنٌ أشدُّ من المشيب!
وصدرَ القرن الهجري الثاني ظهرت فيما وراء العراق فرقة المسوِّدة، وآل سعيُها إلى قيام الدولة العباسية التي صار السواد زيها الرسمي؛ يلبسه كبراء رجالها، ويرفع أعلاما على جيوشها. 
على أن الألوان في جوهرها خاوية، وإنما يَعْمُرُها تَصَوُّر الإنسان وخياله بالدلالات انطلاقا من عوامل شتى، ولو كان السواد لون سوء لما وصف الله جنتي أهل خشيته بأنهما {مدهامتان}.
يبقى القول إن السواد كان اللون الوحيد تقريبا لأقنعة الموريتانيين وملاحف الموريتانيات في كل الظروف حتى الماضي القريب، ولذا كان وصف "امْكَحْلَه" عَلَمًا على المرأة أيا كانت وكيف كانت.

"الكُنى"
كثيرا ما وجد الأشقاء العرب صعوبة في فهم الأسماء الغريبة التي تكثر لدى الموريتانيين، وكثيرا ما سألوا أحد حامليها عن معنى اسمه فلم يحظوا منه بطائل. (أحد شعرائهم زعم – على الهواء- أن معنى اسمه الشاعر المُجِيد!) وأعني هنا الألقاب وما اصطلح على تسميته الكنى دون أن يكون كذلك (الكنية الحقيقية تبدأ بلفظ الأب أو الأم).
يمكن إيضاح تلك الأسماء بما يلي: يولد مولود فيسمى المختار (على سبيل المثال) ثم يحرف ابنه أو أخوه الصغير - أو مَن في معناهما- نطق اسمه في محاولاته الأولى للكلام، فيجعله "التاه" أو "الداه" فإذا أراد الأصاغر التأدب معه وضعوا أنفسهم موضع ابنه أو من في معناه فخاطبوه خطابه، وبذا يختفي الاسم تدريجيا وتتفرد "الكنية" كلما تقدم عمره.
بعد أن يتوفاه الله يطلق اسمه على مولود أو أكثر لقرابته أو مكانته، فيقتصر على "الكنية" التي أصبحت اسما مستقلا مع مرور الزمن! ومن غير المنتظر أن يكون معنى لكلمة محرفة نطقها رضيع.
وقد يطلق الأصدقاء لقبا من ناحيتهم (اسم الأصحاب) ويطلق المجتمع آخر إشادة أو نبزا، فتتعدد الأسماء لمسمى واحد. وربما أوقع هذا التعدد الموريتانيين أنفسهم في متاهة!
أذكر أني عرفت صديقا قبل 27 سنة تقريبا في إحدى مناطق الداخل، ثم افترقنا فكنت أسأل عنه من لقيت من بني عمومته فينفي علمه به، ومنهم من يزيد فينفي وجود الاسم فيهم أصلا! وبعد سنوات لقيته صحبة أحد من سبق أن نفوا وجوده، وبعد نقاش تبين أني كنت أسأل عنه باسمه واسم أبيه الإداريين المقتصرين على الورق، بينما يعرفهما أهلهما بلقبين أنسياهم ما سواهما، ولا شأن لهم بما دُوِّن في الأوراق المدنية!

الاحتفاء بالمطلقة
هو أمر أثار حيرة لا يستحقها، وقصارى شأنه كونه امتصاصا - ربما كان مبالغا فيه- للصدمة من طرف المعنية التي لا ترضى أن تكون قد انتهت لمجرد أن شخصا لم يعد يريدها، وأسرتِها التي لا ترضى أن يكون في الأمر عبء عليها، وترى أن مكانها (مكان المطلقة) ما زال محفوظا لها. ويستشهدون على ذلك بمثل يقول إن ورق الشجرة لا يثقلها. والمجتمع يؤازر الأسرة وابنتها بمقاسمتهما الشعور ذاته (أو التظاهر بذلك على الأقل) مع إنصاف يسجل له؛ هو أنه لا ينبذ المطلقة لمجرد كونها مطلقة.
بيد أن الحقيقة أن الطلاق غير مرغوب في الغالب الأعم، وقد يوغر الصدور. ولا يختلف الموريتانيون في هذا عن سواهم إلا في التجلد وعدم التحامل على امرأة لا حول لها ولا قوة في تصرف خاضع لإرادة صاحبه الفردية.

المرآة والتدخين 
وجه ذكريهما التميز لا الغرابة، وهما عنوانان لقائمة من الأشياء والممارسات يجري فيها ما يجري فيهما.
لا يرضى العرف السائد بالنظر في المرآة بحضور الكبير وكذا مختلف الممارسات ذات الطابع التجميلي التي لا تناسب الوقار والرزانة.
كما يعد التدخين بمحضر الكبار عملا وقحا ورعونة هوجاء؛ خلافا لمجتمعات أخرى في الموضوعين.
ويبدو أن الأمر لم يعُدْ كما كان؛ ومن أطرف الأدلة على ذلك أن شابا كان يدخن في الشارع فمر به مسن فبادر بإخفاء سيجارته كما تفرض الأخلاق، لكن المسن توقف وأخرج سيجارة طالبا من الشاب إيقادها له!!
 (قد يتواصل)