الأب الحائر

أحد, 03/20/2016 - 22:32

خفف الوطء ما أظن أديم***الأرض إلا من هذه الأجساد
حدثني أبي عن تلك الرحلة الطويلة و عن ما لاقوه من العوائق، عما كانت تعرفه البلاد من صعوبة و مخاطر جعل من يصفها الآن بأنها أصبحت ارض سلام، ارض جنان، ظل و ماء بارد. لم يكن حديثه فرجة تزيده تحملا و صبرا علي ما أترفوه من نصب بقدر ما كان يتساءل عن تسارع الأحداث وتقلب الزمن:
- عجبا لهؤلاء الشباب يهدرون أوقاتهم، يتكلمون لغة لا نفهمها، لم تكن في زماننا ولا في أرضنا، عن أي قضية يتندرون، يتحدثون و يكتبون، لم كل هذا العناء أما أن لنا آن نستريح بعد كل الحقب السائبة التي عرفناها. 
- لقد سئموا يا أبي من  الوعود، ترقبوا العالم وما يجول في كنهه، نبذوا الجمود، كيف لا، بعد كل القيم التي درسوها و التي تلقفتها آذانهم، تراهم يسكتون.كيف لنا أن نحيا و نحن نري ما يحدث من حولنا؟
الناس صنفان موتى في حياتهم*** وآخرون ببطن الأرض أحياء
- تمهل فالحياة قصيرة و الإنسان لا يحظى إلا بما كتب له، لماذا نمد أعييننا إلي ما متع به غيرنا؟  فنحن نحيا جميعا دون توقف دون امتراء و هذا وطننا بعد آن كنا تائهين، نفترش أرضه، تظلنا سمائه، نحتسي خيره. لماذا تبحثون عن غيركم لا عن أنفسكم؟
لا يعلم أبي أن الحياة تغيرت و الناس أبناء زمانهم و أن الطموح حق شرعي، لم نعد نرضي بنصف الزاد، هنا المدينة حيث الشوارع معبدة و الأرصفة مرئية و الحدود لم تعد أرضية، والكل يبحث عن قضية، سأمتطي جوادا روميا عربيا خليجيا ولو يهوديا، يزيدني مالا وجاها، يزيدني في كل شيء.
يزداد أبي حيرة و تخوشا يوما بعد يوم، لم يعد يثق بي، لم يعد يثق في أي شيء، يترقب الأحداث من حين لحين, فلكل يوم قضيته و لكل ساعة حكايتها، لم يعد يكتفي بالمذياع فكل قادم له نصيبه من الأسئلة وان لم يرد الجواب:     
  - ألا يكفي أننا نستورد زادنا لنستورد قضايا و ثقافة غيرنا، لم يبق لنا الكثير، سلبنا حياتنا، ثقافتنا و ديننا. ليت الحياة توقفت فنتتبع أثارانا، ألا ترو ما يحدث من حولنا فتن كقطع الليل المظلم.
- إننا نرغب في السلام أولا و أخيرا يا أبي، لكن علي طريقتنا وليس من الضروري أن خلف كل مشكلة قضية، كما لم تعد القضايا كما كانت كالسيل الجارف، سنتوقف أو- عفوا- سنتريث عندما يحسب لنا ألف حساب.
-  لم يبق في التاريخ اتساع فهذا نيرون قتل أمه و احرق شعبه، إن كان لا بد من قضية يا بني، فاختر لنفسك ما يجمعنا، ما ينفعنا و ابتعد عن كل بلية و لا تركن إلي كل يد أجنبية سخية. سر علي قدر استطاعتنا، واثقا مترقبا منصتا مخبتا.
- لم يتركوا لي قضيتي، يا أبي،  فالكل بات يرقبنا، الكل شاهدنا، يتجهمنا، حاربنا الجميع حتى حاربنا أنفسنا لم يعد فينا الكثير، أين أخي قبل أن ينادي نجدتي...القضية لا بد لها من الأيادي الأجنبية السخية قبل أن تمتد إليها أيدي الحاكم الغنية.
- ما هكذا كان الجدود، رغم كل السنين لم يسرقوا خبزا و لم يحرقوا العهود، الم تعلم أن أخاك يبحث عنك، بحث في كل الحقول،  قضاة عرفوك، أساتذة عرفوك. أما آن أن تنفك حبوتنا و نسترجع أيامنا، ثقافتنا، إسلامية خالية من كل الشوائب، من كلما يعكر صفونا. 
عجبا لهؤلاء الشباب،  يتغنون بالوطن ويتهافتون علي اسمه لكن لكل قضيته، يبحثون عن إرضائه ولو لحساب غيره،  لم يعد وطننا علي ما كان عليه: ارض شعر و فقه فحسب بل أصبح ارض مليون سياسة، مليون قضية، مليون تجارة، مليون سمسرة..ارض الملايين علي قلتنا ، الم يبصروا أو يتبصروا حاله، رث كأم  ثكلي، أثخنتنه الجراح،لم يعد يقوي علي السير، تكالبت عليه الأعداء، أين الأبناء الذين صمدوا و رفضوا كل الغزاة؟
ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها *** وما كنت منه فهو شيء محبب
سيعلم أبي أن الوطن غفور رحيم و انه كفيل باحتوائنا و قضيتي راسخة كلما خبت زدتها سعيرا، ولان شاخت القضايا قبلي فقضيتنا تبقي عبر كل العصور... أحقا أن القضايا تشيخ كما يشيخ أصحابها أم أنها تدور و تتلون حسب كل زمن و فصل؟ ربما كان الزمن كفيلا بالإجابة.    

- هذه أرضنا رغم كل الحوادث، كن حيث ينبغي أن تكون، كن كادحا، بعثيا، ناصريا كن أخا،و غدا كن من تكون، ، لكن تريث يا بني، تريث ليوم لا يقبل التأويل، سيكون فيه التاريخ محكما، و الحقيقة واحدة مقروءة، يوما فيه يفر المرء من أخيه و أمه و أبيه... 

المهندس / محمد أحمدو