مالذي حدث ؟ (4)
يتناول قهوته ليتمشي ببطء بين شجيرات وحدائق القصر الرمادي وحوض السباحة .. مرسلا خياله بعيدا ، ليري بالعتمة كل شيئ بوضوح .. .. مستعرضا فيلما طويلا -إن جاز التعبير - ..تاريخه الشخصي ممزوجا بولد عبد العزيز وموريتانيا .. متأملا الذات في الأحداث .. والأحداث في الذات .. تلك لحظة إنسانية تتعرى من ثيابها، وترفع عن وجهها القناع.. القناع الذي يفرضه أتون الصراعات التي لا تنتهي .... يعاند خياله الخصب ويرسم اللوحات كما يريدها في تاريخه ..لا كما هي على أرض الواقع ..تلك الأرض القحلاء الموحشة، تُغرس فيها ورود مفزعة.. وردة الخوف ووردة الأنانية، وزهور الحقد، و الحيرة .... ومع ذلك يستمر إسترسال خياله في نبش ما تبقي من مخزون الذاكرة ، فلا تسعفه بغير البياض الموغل في السواد .. حالة طارئة ..من حالات الهروب من الإحساس المضاد .. يتوقف القلم قليلا عن الكتابة ليتأمل حبره على أجنحة سراب القصون المبتورة ... ليتساءل بحسرة .. أهذا كل ما بقي بعد من الوفاء ! ؟
كانت النقطة الحاسمة  و الفاصلة حقا هي رفض ولد عبد العزيز الحضور الى الاحتفال يوم الاستقلال فى اكجوجت.. كان ذلك بمثابة الرصاصة التى تخترق جسد غزواني والحاضرين معا .. كانوا يريدون أن يستمتعوا بتلك اللحظات و كان المشهد سيعطى لغزوانى دفعة نوعية كبيرة وكان تفكيره منحصرا فيها .. لكن الظن شيء والحقيقة شيء آخر ..عندها وقف _ الاستاذ_ ذات اليوم على مفترق طرق فترانيم التسابيح والمزامير تعطل عملها ولعبة الشطرنج التى أسسها أصبحت أحصنتها مهترئة فأحس القادم من الثكنات العسكرية بوابل من الإحساسات الضاربة والشعور بنوع من الاحباط فوق كرسي عرشه الوثير وبدأت حاسبته الذكية تفقد بعض رموز لوحة مفاتيحها .. فبدأت الاقنعة تتحرك .. فأعدوا الحلبة لمنافسة أخيرة كان ضوء سيف ولد عبد العزيز وهو يتسلل عبر النوافذ الموصدة، يمثل هاجساً وذعرا لأولئك الذين اعتادوا الظلام، وكأنّ المستسلمين طوعا للخيانة، يرفضون بإصرار محاولات من يؤرقهم بإمكان وجود حياة خارج ظلمات غياهب الغموض !
و عندما يضل المنطق طريقه تبدأ وتيرة التخبطات فى النزول لعلها القوانين التي تحكم عالمنا، وتحيله إلى مدارات متداخلة من الأفكار المتصارعة، هي ذاتها التي تدفع بالشجعان نحو حافة التحدى ..حين ينتهى طريق الأفكار المخملية بهوة سحيقة من الجهل والتعصب، ففي الوقت الذي وقف فيه فقهاء المعارضة وحلفاؤهم يحاصرون ولد عبد العزيز وكان التحريض على اشده.. لكنه الرجل كان مسلحا بمبدأ الشجاعة هي الحكم والعدل بالسيف .. فجاءت اتهاماتهم خارج الزمن متناقضة ومرتبكة ولو أن هؤلاء الغلاة حملت قلوبهم ذرة من إيمان أو ذرة من التصديق بمايقولون لكانوا تنازلوا عن معارضتهم لغيرهم، ولكن لأن الشيطان دائماً يغلب على الحاقدين فهم جميعاً متحرزون عن جادة الحق والصواب !
لا شك أننا نلحظ أن القضية أصبحت أكثر تعقيدا من قبل ، فالمشكلة صارت تتخذ مسارا آخر وأبعادا خطيرة لم يستطع الاعلام مواكبتها وكشف خيوطها وظل واقفا تجاه المظاهر والسطوح الخارجية دون الولوج فى أغوار الأزمة ، ولأنه لا يمتلك منهجا ينوص به إلى جذور تطورات الأحداث تراه يقف طويلا إلى جانب القشور ، وكأنها هي السبب اليتيم فيما أدت إليه كل هذه الأحداث من كوارث !
ولنرجع قليلا الى الوراء.. فحينما ألقى القادم من الخلف خطابه الشهير بمناسبة يوم تنصيبه حاكما و حيث تجمعت أعداد هائلة من الجماهير فى قصر المؤتمرات الجديد معلنة فرحتها وولاءها التام .. إنتهي الخطاب العسكري .. هذا الخطاب الذي يدينه المنطق الآرسطي لفن الخطابة والجدل ويفتقد للتأثير والإقناع الحجاجي .. وقد قطعت فى ذلك اليوم حُلقوم اللغة قطعا رغم الزخاريف الموبوءة بالحفظ .. ورغم ذلك كان هناك من يتباهي بخطابه .. وكان هناك من خُدع بدموع التماسيح ومع كل ذلك .. أستمرت الجماهير فى التصفيق والتطبيل .. يومها كتب التاريخ على هذه الارض المنكوبة أولى فصوله باللغة الخشبية الفضفاضة والتعنيف والتهجم الصامت .. فكانت تلك هي الرسالة الخفية التى عصفت بخطابه خارج دائرة التصنيف والتحليل .. ذلك أن فهم خطابات القادة والنخبة تربط ارتباطا وثيقا مع سياستهم !
رجع القائد الملهم الى القصر الرمادي بعد انتهاء الحفل .. ودبت فيه دبيب الحياة وهو يعاود التلفزيون .. أرخى الليل سدوله والليل مرتبط بالليل والنهار كذالك .. غير أن الاستراتيجية القادمة هي النقطة البداية وهي التى من خلالها .. إما أن نكون أولا نكون.. هكذا بدء يخطط ليلته بفكرة مفادها أن الأبطال الذين خلد التاريخ أسماءهم لم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك إلا بعد تحطيمهم الحواجز و دهسهم لمن يقف فى واجهتهم ، فالقادة المشرعون للبشرية الذين غيروا معالم التاريخ من سولون وحتى نابليون وآخرون ما كان لهم أن يصلوا إلى تلك الشهرة العالمية إلا حينما أزاحوا الأفراد العشرة أو المائة.. الذين وقفوا صخرة متينة على طريقهم _وهذا قد انطبق على ولد عبد العزيز حينما أزاح العلوج من طريقه _ وهنا أخذ ولد الغزواني يسائل نفسه بحرارة وهو يتقلب على سريره يمنة ويسرة هل أنا قملة أم رجل عظيم !.... أرنب .. أم أسد ؟
كان ولد عبد العزيز نقطة تحول مهمة فى تاريخ موريتانيا الحديثة وليس مهما هنا من كان معه فى ذلك لانه حين قاد الانقلاب لم يكن فيلسوفا يطبق احدى نظريات العمل الثوري ولم يكن أيضا بالمقابل مغامرا أطلق لشهوة السلطة العنان فى انقلاب عسكري .. كان احد ابناء جيل الخمسينات وهو الجيل الاستثنائي فى تاريخنا الحديث .. اذ كانت موريتانيا آنذاك تحت رحمة اجداده الأحرار .. هكذا يقول التاريخ الذي كتبه وشهدت عليه اقلام الروم ..و ذلك التاريخ هو ' الرصاص' الذي ولدت منه العنقاء كما تقول الأساطير ! ..
لم يكن ولد الغزواني سوى شخصية قوية التفكير والتخطيط ولعل أخطر ماواجه منذ البدء هو الطريقة التى يتعامل بها مع الأحداث ، فقد أفتقد الرجل إلى فن معالجة الأزمات .. فن الادارة .. فكان دائما يعتريه الفقر الشديد فى ردود افعاله الصامتة ، الأمر الذى يدفعه إلى إستخدام فرض القانون كأساس للمواجهة و أن يتخذ كتبرير لاستخدام القوة الغاشمة والزج ببعض المدونين الي السجن وانتهاك حقوق الانسان .. وذلك خارج عن المألوف ، وهذا هو الغباء السياسي الذى يجعله يتصرف
بشكل عشوائي غير مدروس وبدافع ردة الفعل للفعل الذى صنعه ولد عبد العزيز ورغم خبرته الطويلة الا انها لم تشفع له فظهرت أعطاب كثيرة ونقص في قدراته التخطيطية في تقييم وترتيب الاوراق في أماكنها الصحيحة مما نتج عن ذلك انعكاسات خطيرة علي الدولة والمجتمع و كل ذلك من اجل اثبات الوجود والفوقية المفقودة ودون الاعتقاد ان هناك خيارات اخري لفك الأزمات ..ولعل الحقيقة المهمة التي غيرت مجريات الاحداث في كثير من الدول والتي اعتمد قادتها على فرق خاصة في التعامل مع الأزمات كانت أكثر بقاءا واستمرارا من قريناتها التي انتهجت أسلوبا معاكسا تمثل بالترجل والتعامل بطرق غير سليمة و
لا يخفي من هنا على الأعمى احرى الأعشى ان وزراء النظام ومستشاريه ممن يعتبرون أنفسهم خبراء على حين ليسوا كذلك في الواقع بل خبرتهم وتفكيرهم الهش ينحصر تحت النهب والتملق وزراعة الفتن !
ولد الغزواني وحوار الطرشان !
يلخص إيمانويل كانت نظريته في كتابه " نقد العقل الخالص " بمقولة شهيرة هي : " أن كل مفهوم بلا معطيات حسية هو مفهوم فارغ ، وأن كل معطى حسي بلا مفهوم فهو أعمى !
تندرج تحت هذه المقولة طبيعة العلاقة المبهمة التى خلفها خلاف ولد عبد العزيز وغزواني .. ذلك أن كل المعطيات غير مقنعة وإن بدت حقيقية .. فإن واحة مبرراتها خداعة!
يجلس ولد الغزوني اليوم حائرا امام حاسوبه ..كان يظن بانه سوف يتحكم فى المشهد بكل عناصره بعدما احاط نفسه
بهالة نورانية من المعارضة .. لكن الظن شيء والحقيقة شيء اخر .. شريط من الأفكار المتناقضة والسامة تتخله خطوط عريضة بارزة تؤرقه كل يوم .. لم يكن يدرى ان الدهر قد خبأ له من اموره كل هذه العجائب .. فجاءت جائحة كورونا لتفرغ الأجزاء المليئة وتسقط ماتبقى من أقنعة .. ولطالما قلت أن منطق العصر وكل العصور ..أن الحق المسلح بالقوة وحده هو الذي يجد لأصحابه مكانا تحت الشمس ، أما السلام بغير إمكانيات الدفاع عنه فهو وهم مثالي لا مكان للداعين إليه فوق سطح الأرض .. ! يتواصل..
القاظى مولاي احمد