في أقصى الجنوب الغربي لموريتانيا، على الضفة اليمنى لنهر السنغال، يحدها المحيط الأطلسي من الغرب، أرض اترارزة. أرض كان لسكانها الدور الأبرز في تأسيس العقد الاجتماعي الذي يعرف الآن باسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
وكالة صحفي للأنباء ترسم في هذا التحقيق الاستقصائي المفصل الذي هو الثاني من نوعه، خارطة سياسية متعددة الأبعاد لولاية اترارزه، بعد أن خصصت الحلقة الأولى لدخلت نواذيبو.
لنا أن نتساءل في البداية عن الأبعاد الأساسية التي سيكون التركيز عليها في رسم الخارطة السياسية للولاية.
إن كان البعد السياسي هو الهدف الأول، فإن الصورة لا تكتمل ولا تكون واضحة إلا من خلال أبعاد أخرى متداخلة ومتكاملة منها البعد التاريخي، ومنها المعطى الجغرافي، وكذا العامل الاجتماعي، إضافة إلى البعد الثقافي الإسلامي الذي هو الرافعة للمجتمع في هذه المنطقة من العالم.
يفرض علينا البعد الجغرافي وحجم الموضوع تقسيم الولاية إلى ثلاث مناطق كبرى : جنوب، وسط، شمال.
تشمل المنطقة الجنوبية مقاطعات روصو، واركيز، وكرمسين، أرض زراعة خصبة يرويها النهر(شمامه)، وتشمل المنطقة الشمالية مقاطعتي بوتلميت، وواد الناقة، وهي أراض رعوية. ويفرض التاريخ لمقاطعة المذرذرة الانفراد بالمنطقة الوسطى، لمكانتها لدى إمارة اترارزة.
لا علاقة لهذا التقسيم بما يجرى الحديث عنه الأن في بعد الأوساط السياسية حول مشروع تقطيع إداري جديد يأتي بتقسيم الولاية إلى ولايتين، يرى فيه بعض المنحدرين من الولاية استهدافا لهم.
وبما أن العاصمة الموريتانية نواكشوط تقع على أرض اترارزه، فلا بد من أخذ ذلك الأمر بعين الاعتبار، في قياس الوزن الحقيقي للولاية، بالمقارنة مع باقي ولايات الوطن.
1 - القبيلة
وجدنا تداخلا شديدا في موريتانيا بين البعدين الاجتماعي والسياسي يجعل الأحزاب السياسية والصحافة أمام وضع يملي عليها التعامل مع الشأن السياسي بمنطق مدان في العلن، ومقبول في الخفاء، لدى جميع الموريتانيين، ألا وهو منطق القبيلة، ومنطق الفئة، ومنطق العرق، كما أشرنا إلى ذلك في مقالات وتحقيقات سابقة، حيث قلنا :
"كان وما زال الانتماء القبلي، والجهوي، والعرقي، ركيزة أساسية لممارسة السياسية في موريتانيا.
مصلحة القبيلة، قيادة القبيلة، التمثيل داخل القبيلة. هذا يمثلنا، وهذا لا يمثلنا. مبادرات الدعم ومكاتب التصويت، هي المبرر الشرعي لتعبئة القبيلة، والتنافس بين المجموعات على إظهار الولاء للحاكم. كل مجموعة تَستقلُّ نصيبها من الحكم.
تخضع جميع الأنظمة السياسية في موريتانيا - في الخفاء - لمقتضيات هذا النظام، وتدينه في العلن.
القبيلة في موريتانيا، كشرب الخمر في بغداد، أيام هارون الرشيد. كلما اجتمع اثنان شربا، وإذا كانوا ثلاثة، عابوا شاربها." (رئاسيات 2009 : نهاية التاريخ والإنسان الأخير)
والذي نقوله الآن، ونحن بصدد رسم الوضع السياسي الراهن، أن الأمور ما زالت على حالها، رغم تعدد الأحزاب والحركات السياسية التي تستند إلى مشارب فكرية مختلفة، أغلبها يأتي من الخارج، ولا تؤمن بالقبيلة وتعمل على إزالتها، لكنها في النهاية تخضع لمقتضياتها في الشأن العام، خاصة إذا تعلق الأمر بالمواسم الانتخابية.
الأسرة، والعائلة، والبطن، والقبيلة، والجهة، والعرق أو الفئة، والقومية، متتالية هندسية متلازمة في كل انتخاب بشكل طردي وفق التقطيع الإداري مع متتالية أخرى هي : البلدية، النيابية والشيوخ، والرئاسيات.
يكون الصراع القبلي قويا في الانتخابات البلدية، بينما تتأثر الانتخابات الرئاسية بالجهة والعرق أكثر.
ومن المتوقع أن يحتدم الصراع - بشكل غير مسبوق - بين المجموعات القبلية على زعامة المجالس الجهوية المزمعة.
2 – الجرم
فترات الحكم تحسب على الجهة والقبيلة التي ينحدر منها الرئيس، فحكم الرئيس المؤسس المرحوم المختار ولد داداه محسوب على ولاية اترارزة وعلى قبيلة أولاد أبيري بشكل أخص، وحكم الرئيس معاوية محسوب على ولاية آدرار وعلى السماسيد.
فترة الرئيس سيد ولد الشيخ عبد الله محسوبة على المحور لبراكنة تكانت، وعلى قبيلتي إديدبه وإدوعل لما لهما من تداخل وثيق عبر الطريقة التيجانية.
محمد خونة ولد هيدالة، والمرحوم اعل ولد محمد فال، والرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز محسوبون على أهل الساحل، وعلى قبيلتي لعروسيين وأولاد بسباع.
وقد رأينا الأنظمة السياسية تأخذ الجهات والقبائل بجرم انتماء الرؤساء الذين أطيح بهم لها.
فولاية اترارزة - على سبيل المثال، والتي هي موضوع التحقيق - مأخوذة بجرم مطالبة أحمد ولد داداه الدائمة بالسلطة وزعامته للمعارضة، تماما كما أخذ المقربون من ولد الطايع وسجنوا بجرم انتمائهم إلى قبيلة اسماسيد بعد انقلاب 2006، اتهموا في الفترة الانتقالية بمعارضة التعديلات الدستورية، ثم بعد ذلك بالتنصل من الضرائب.
لا ندرى هل يعتمد الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز في نظام حكمه على منطق الجهة أو القبيلة، وهل ينظر بعين الريبة إلى المحور: آدرار، تكانت، لبراكنة، اترارزة، ليأخذها بجرم انتماء الرؤساء وزعامة المعارضة، كما يأخذونه بجرم حرمانهم من الطموح إلى الرئاسة. فهو الذي انتزع السلطة من ولد الطايع، ثم حرم منها ولد داداه لصالح ولد الشيخ عبد الله، ثم انتزعها منه لنفسه.
وإن كان ينوي الاحتفاظ بها لفترة طويلة، فذلك يعني حرمان اترارزة من طموحها في الحكم لفترة أطول.
طموح اترارزة في السلطة مبرر بالدور التاريخي للولاية في التأسيس من جهة، وبالحجم البشري والقوة الثقافية من جهة أخرى.
3 - التأسيس
الدور التاريخي للولاية في التأسيس قد بدأ قبل الاستعمار مع دعوة الشيخ سيدي الكبير في مؤتمر تندوجة إلى نظام مركزي موحد لجميع الإمارات، ودعوة ابنه سيد محمد إلى الجهاد، ثم ابنهما باب في الفترة التي كانت تدار فيها أمور البلاد من سان لوي أو اندر وبعدها بوتلميت، إلى يوم الإطاحة بنظام ولد داداه 1978 إثر حرب الصحراء.
وبعد ذلك أبعدت ولاية اترارزة عن الحكم، وعانى أهلها أكثر خلال فترات التوتر مع المغرب، وعندما أظهرت المطالبة بالسلطة من خلال أحمد ولد داداه في مطلع التسعينيات، وضعت الولاية في خانة المعارضة.
وبقي السند التاريخي والعامل الوراثي لمطالبة أحمد ولد داداه بالسلطة حاضرين وراسخين في الأذهان، وذلك لجمعه بين أسرتي أهل داداه وأهل الشيخ سيدي، كما أنه يحاسب أيضا على فترة إدارة أخيه لشؤون البلاد.
عندما نقول إن ولاية اترارزة هي الولاية المؤسسة للعقد الحديث الذي ما زال اسمه - وفق الدستور الحالي - هو "الجمهورية الإسلامية الموريتانية"، فذلك لا يعني أن الأجزاء الشرقية والشمالية الشرقية من البلاد لم تشارك في التأسيس.
فالمجتمع الشنقيطي تأسس في تلك المناطق فترة ازدهار الحواضر القديمة في المحور فاس، وادان، شنقيط، تيشيت، ولاتة، تنبكتو. ثم تحول التأسيس إلى جهة الغرب فترة المرابطين، وبعد ذلك فتح الأوربيون خطوطا تجارية جديدة عبر البحر مع البلاد، وأصبحت أمور التجارة والسياسة تدار من المناطق الغربية والشمالية حيث لعبت ولايتا آدرار واترارزة، بالإضافة إلى القوة العسكرية والثقافية المسيطرة آنذاك على منطقة الشمال (ارقيبات، أولاد دليم وأولاد اللب والقرع، أولاد بسباع، أهل باركلل)، دورا حاسما في رسم الخارطة السياسية للبلاد قبيل الاستعمار.
وفي تلك الأثناء ظهرت دعوات لإقامة الدولة من أجل الجهاد مع الشيخ محمد المامي في الشمال، وسيد محمد ولد الشيخ سيديا في الجنوب.
يقول الأول : "أثيروا الغرب قبل قيام عيسى للعل الله ينعشه سنينا"
ويقول الثاني : "حماة الدين إن الدين صارا أسيرا للصوص وللنصارى"
فساوى بين اللصوص والنصارى في الخطر على الدين.
كما دعا ادخيل الرقيبي جميع الامارات إلى التوحد وعدم الخنوع للكفار.
لحَّكْلِ لعرب تُجُنين والباطن واظهَرْ لمسَيْلين
وإعيش أبَرْكنِّ لثنين أترُّوز اعلَ كدُّ لامَ
عنْ هَــذِ تدْليّتْ ليْدين فأصْلْ الرّكَّه والذَّمامَه
للكفّارْ ألَّ ماهُ زينْ نسألُ اللهَ السلامَه
في هذه المرحلة تركزت الأمور في المناطق الغربية والشمالية من البلاد، وكان كبلاني هو أول من أطلق عليها في مراسلاته هذا الاسم : موريتانيا.
"بلاد شنقيط" تأسست في الشرق والشمال الشرقي، و"موريتانيا" تأسست في الغرب.
وإن كان لا بد أن نجد لها أبا مؤسسا، فالأب المؤسس للدولة الحديثة هو باب ولد الشيخ سيدي أو الشيخ سيدي باب، كما يسميه الفرنسيون حين كان يفاوضهم هو والشيخ سعد بوه مع أمير اترارزة أحمد سالم ولد اعل من أجل الحصول على ضمانات تحمي الدين الإسلامي. وقد التزمت فرنسا زمنا طويلا بالبند المتعلق بمسؤولياتها في حماية الدين الإسلامي في موريتانيا، حيث عينت قضاة وأئمة في المناطق التي احتلتها كلفتهم بتطبيق الشريعة، حتى أنها استخدمت ذلك البند لتجد مبررا قانونيا تسجن بمقتضاه زعماء الطرق الصوفية الذين صمدوا في وجهها مثل الشيخ حماه الله، متهمة إياهم بالمساس بالدين، فالتهم التي كانوا يدَّعون عليه متعلقة أساسا بالخلافات المذهبية، بِزَعم أن فرنسا هي الحامية للدين وفق قانون الاستعمار. قالوا إنه يَقصر في الصلاة بغير وجه شرعي، فأجابهم في إحدى المرافعات في سان لوي متسائلا بتهكم عن عدد الركعات الذي تقره فرنسا.
والغريب في الأمر أن الدين في موريتانيا كان أكثر تضررا بعد أن منحت فرنسا الاستقلال، لأنها تحررت من القيود بشأن الدين التي كان يفرضها قانون الاستعمار الناتج عن التفاوض مع باب ولد الشيخ سيديا والشيخ سعد بوه، بعيد الحرب الطويلة التي قادها محمد لحبيب ضد الوجود الفرنسي في الوالو على الضفة اليسرى لنهر السنغال.
وربما تضمن اختيار النشيد الوطني آنذاك اعتراف ضمني بدور الشيخ سيدي باب في التأسيس.
4 – الحجم
ولاية اترارزة هي أكبر الولايات حجما على الإطلاق، خاصة إذا أخذنا الامتداد الاجتماعي والثقافي بعين الاعتبار، فلها امتداد ثقافي يتعدى الحدود السياسية للإمارة، ويصل شمالا إلى أرض تيرس. ولها امتداد اجتماعي أيضا على جهة الشرق، يضم جزءا كبيرا من ولاية لبراكنة.
ومن هذا المنطلق، لا نعتبر الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز غريبا تماما على ولاية اترارزة، لانتمائه إلى قبيلة أولاد بسباع التي كانت تمارس التجارة في الخط مراكش سين لوي، من جهة، ولخؤولة من مجموعة آرويجات التروزية، من جهة أخرى. وهو محسوب بدوره على ولاية إينشيري، الجارة الشمالية التي كانت تابعة إداريا إلى عهد قريب لولاية اترارزة.
5 - المغرب
لكن مشكلة ولد عبد العزيز والرؤساء الذين سبقوه، الكبيرة والعميقة مع اترارزة، هي أن أي توتر في العلاقة مع نظام الحكم في المغرب ينعكس سلبا على العلاقة بالإمارة، لما لها من ارتباط وثيق بالعرش العلوي من عهد اعل شنظورة والمحلة إلى اليوم.
قدم المغرب الدعم لولد عمير ضد المختار ولد داداه، ولأحمد سالم ولد سيدي ضد محمد خونة ولد هيدالة، ولئن كان احتضان المغرب اليوم لرجل الأعمال محمد ولد بوعماتو يأتي في سياق مختلف، إلا أنه من أشد المعارضين لولد عبد العزيز شراسة، ويعمل على الإطاحة بالنظام استنادا إلى المحور الرباط داكار باريس، فإن اترارزة تدفع ثمن ذلك الاحتضان بسبب ولائها المفترض للمغرب. فقد خلفت حرب الصحراء انقساما في المجتمع جعل أهل الساحل ينحازون إلى البوليزاريو، بينما ينحاز أهل الكبلة للمغرب أكثر، كما أن السنغال الجارة الجنوبية للولاية تقف إلى جانب المغرب في صراعه الدبلوماسي مع الجزائر، ويقف إلى جانبها كلما توترت العلاقة مع موريتانيا.
لكن الحقيقة أن الأمور تغيرت ولم يعد للمغرب أي تأثير سياسي مباشر على اترارزه، فقد رثَّ حبل الوصال بينهما، ولم يبق منه سوى صلات ثقافية وأسرية محدودة، لا تكفي لتبرير تهمة الولاء للمغرب.
فالصلات المتبادلة عبر الطرق الصوفية تعززت وتركزت في السنغال أكثر.
أما قبيلة أولاد بسباع – قبيلة الرئيس – فلها علاقة مع المغرب تختلف عن علاقته بالإمارة، فهي قبيلة نازحة أصلا من المغرب، توطنت أرض الساحل، وعانت كثيرا من تهمة الولاء للمغرب بعيد الاستقلال، وخلال حرب الصحراء. تلك التهمة التي سقطت بسرعة عن ولد عبد العزيز بعد توليه السلطة في موريتانيا.
سقطت عنه تهمة الولاء للمغرب تماما، وحلت محلها تهمة أخرى لصيقة بالممارسة السياسية في موريتانيا، ألا وهي تهمة الولاء للجهة، أو إن شئتَ سمِّها تهمة البوصلة.