هل كان ممكناً تفادي «اللحظة البلشفية»؟ لم يكن تفاديها بالأمر السهل بعد فشل هجوم بروسيلوف الثاني على جبهة غاليسيا، نتيجة لتأثر الجنود بالدعاية المضادة للحرب. أما قبل ذلك مباشرة، فما كان لأغلبية المندوبين في المؤتمر الأوّل لمجالس الجنود والعمال لعامة روسيا (3 حزيران 1917) أن يأخذوا بجديّة المقولات التي طرحها لينين، حين طالب أمامهم بأن تعطى كل السلطة للسوفييتات، في وقت كان لا يزال حزبه أقليّة محدودة بين مندوبيها. قوبل كلامه بالاستهزاء الشديد عندما أعلن جهوزية حزبه للإستيلاء على السلطة في أية لحظة.
عشية هجوم بروسيلوف الثاني، اعتقد الكسندر كرنسكي، وزير الحرب، والاشتراكي البرلماني، بقدرته على التوفيق بين اتجاهين متعارضين. الإتجاه الداعي، منذ سقوط القيصر، لتحقيق السلام في أسرع وقت ممكن، والثاني، في قيادة الأركان، لمواصلة الحرب بأي ثمن. أخذ يمنّي النفس، بأنّه قادر على الجمع بين هذين الإتجاهين، بإعطاء صبغة جديدة للجيش، عبّرت عنها «شرعة حقوق الجندي» (التي تعطي للجنود حق التحزب). ورغم كل ما كان يصله من تقارير عن الحالة الفوضوية على جبهات القتال الأربعة، وخصوصاً من الجنرال الكسي بروسيلوف، فقد اتخذ قرار الشروع بالهجوم الأخير للجيش الروسي على جبهة الحرب العالمية الأولى، ورأى فيه محاكاة لانتصار جيش الثورة الفرنسية في «فالمي»، وأن روسيا تحتاج الى «فالمي» جديدة، كي تعبر بأمان نحو نظام جمهوري هو على رأسه.
العاقبة كانت وخيمة. القطاعات المتأثرة بالدعاية «ضد الحرب» فضّلت توجيه سلاحها ضدّ ضباط الرتب العليا. عُزِل بروسيلوف وتولى لافار كورنيلوف قيادة الجيش تحت عنوان اعادة فرض الانضباط بقوة، وترأس كرنسكي بنفسه الحكومة خلفاً للأمير لفوف.
بالتوازي مع فشل هجوم بروسيلوف الثاني، قمعت الحركة التمردية في بتروغراد في تموز 1917، التي انجرّ اليها البلاشفة «خوفاً من أن لا يسبقهم الشارع»، فاعتقل بعض من قادة البلاشفة في أثرها، وتخفّى آخرون (مثل لينين الذي لجأ الى فنلندا). عندها، صار الخطر على حكومة كرنسكي المؤقتة المدنية من كورنيلوف. اختلط هذا بتقدّم الألمان، واحتلالهم ريغا نهاية آب، واقترابهم من العاصمة. اندفع كورنيلوف إلى محاولة الإنقلاب، محبطة، على كرنسكي. ارتفعت أسهم البلاشفة مجدّداً. جاءت انتخابات بلدية موسكو ثم انتخاب كل من سوفيات عمال وجنود بتروغراد وموسكو، لتعطيهم الأكثرية في هذه المجالس لأوّل مرة في أيلول 1917.
لم تعلن «الجمهورية الروسية» من قبل الكسندر كرنسكي إلا في 14 أيلول 1917، في ظروف تصدّي حكومة «المدنيين» للخيار العسكريّ «البونابرتي» ممثلاً بكورنيلوف، وصعود البلاشفة السريع في العاصمتين، بتروغراد وموسكو، فضلاً عن تنامي نفوذهم في قطاعات الجيش على الجبهة، وفي الأسطول.
استعان كرنسكي بالبلاشفة، وهو يدرك بأنهم يعملون على عزله. كما يقول سين ماكميكين في كتابه عن الثورة الروسية، كان هذا السرّ المعلوم في كل بتروغراد، والأمر الذي ينبغي أن يتوقّف عنده المرء هو لماذا تردّد البلاشفة أسابيع عديدة قبل إقدامهم على ذلك. في هذه الأسابيع حاول كرنسكي أن يتفادى «القطوع»، من خلال الطلب من السفير البريطاني جورج بوكانان، السماح له باتفاق هدنة مع الألمان.. عبثاً. ثم فكّر بنقل مقر الحكومة المؤقتة إلى موسكو، وتسرّبت هذه «النيّة» إلى العلن، بشكل حشر لينين والبلاشفة كرنسكي في الزاوية أكثر فأكثر: اتهموه في نفس الوقت بالنيّة في تسليم العاصمة، بتروغراد، إلى الألمان، وبانعدام النيّة في اخراج البلاد من حرب لم تعد فقط مشكلتها أنها «امبريالية»، بل صارت مهلكة تماماً، بعد فشل هجوم بروسيلوف الثاني على الجبهة.
تمكّن البلاشفة من توظيف كل مجرى الأمور بعد فشل هذا الهجوم لصالحهم، وخصوصاً الصراع بين «العسكري» كورنيلوف و»المدني» كرنسكي. لكنّ ذلك لا يحجب المتغيّر الكبير الذي حققوه بين تموز وتشرين الثاني: حصولهم على الأغلبية بين مندوبي عمال وجنود العاصمتين، وتنامي قوة أنصارهم في سلاحي المشاة والبحرية.
المخابرات الألمانية، التي أعانت البلاشفة في الكثير، كانت تتوقع استيلاءهم على السلطة، بل تسهّل له السكّة، لكنها كانت تتوقع خسارتهم لها بشكل سريع، وفتح الطريق للزحف الألماني على مدينة بطرس الأكبر.
تمكّن البلاشفة من الإحتفاظ بالسلطة، وتحطيمهم أعداءهم الواحد منهم بعد الآخر، من خلال معادلة لم يخفها لينين طيلة تلك الفترة: الانتقال من الحرب الإمبريالية، على الجبهة مع المانيا والنمسا وتركيا، الى الحرب الأهلية. وهنا لم يكن المنعطف الحاسم هو استيلاء البلاشفة على السلطة، بل انتخاب الجمعية التأسيسية ثم حلّها في الفترة التالية على هذا الاستيلاء.
فقد احتاجت روسيا الثورية ثمانية أشهر بعد سقوط القيصر، كي تلغي المؤسسة البرلمانية للنظام القديم. فالحكومة المؤقتة برئاسة الكسندر كرنسكي لم تلجأ إلى حل «دوما الدولة» الرابعة، القائمة منذ 1912، إلا في السابع من اكتوبر 1917. تضافرت الدعوات لإنتخاب جمعية تأسيسية ينبثق عنها العقد الإجتماعي الجديد لروسيا، ويتحدّد في إطارها نظامها السياسيّ. إلا أنّ الطريق إلى انتخاب هذه الجمعية التأسيسية لم يكن مؤمّناً قبل استيلاء البلاشفة على السلطة في بتروغراد، في 25 تشرين الأول (بالتقويم القديم، كما في كل المقال). فقط في ظلّ استيلاء البلاشفة على السلطة، صار الطريق إلى انتخاب هذه الجمعية التأسيسية مؤمّناً، إذ لم ينجح البلاشفة في تأجيل موعده، أو في تبديل قانون الإنتخاب، وحصل الإقتراع في الموعد المحدّد (12 تشرين الثاني) بنتيجة مخيبة جداً (ومتوقعة إلى حد ما) للبلاشفة، الذين لم يصلوا حتى إلى ربع المقاعد. ومع ذلك، لم يتردّد البلاشفة، في فضّ الإجتماع الأوّل للجمعية التأسيسية بالقوّة وحلّها، مطلع العام 1918، في قرار فتح الباب على مصراعيه تماماً للحرب الأهليّة الشاملة.
هجوم بروسيلوف الأول (حزيران 1916) كان انتصاراً قيصرياً أسيء توظيفه، فارتد بنتائج عكسية (الثورة الشعبية على القيصر نقولا، وتنحيه). أما هجوم بروسيلوف الثاني (حزيران 1917) فقد فجّر الجيش الروسي نفسه، واستفادت منه البلشفية، إلى حيث الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها (واعادة انشاء جيش جديد، أحمر، يخرج من معمعان الحرب الأهلية).
تعطينا كتابات زعيم «المناشفة الأمميين»، يوليوس مارتوف، مقاربة وافية حول تأصّل «النزعة العسكرية» في البلشفية، واتجاهها لأن تكون «حركة الجنود»، أكثر منها «حركة الطبقة العاملة». يقول مارتوف في «جذور البلشفية العالمية» (1923) أن «البلشفية ليست الشكل والبسيط لثورة الجنود، لكن في كل بلد تخضع فيها ثورة لأثر البلشفية، يحدث هذا تبعاً لدرجة مساهمة جماهير الجنود في أحداثها».
من جملة المفارقات، أن مارتوف، صديق لينين القديم، وأحد أهم ما انتجته الحركة الثورية الروسية، هو أوّل من ستحكم عليه ثورة البلاشفة، بالذهاب الى «مزبلة التاريخ» (كلمات تروتسكي بحقه بعد ساعات من الاستيلاء على السلطة، أمام المؤتمر الثاني للسوفييتات). أما بروسيلوف، الجنرال القيصريّ، الذي ارتبط اسمه بهجومي 1916 و1917 على الجبهة، فلن يتأخر كثيراً بعد انتصار البلاشفة، للانضمام اليهم، والى «الجيش الأحمر». مثّل انضمام بروسيلوف، أهم ضباط القيصرية في الحرب العالمية الأولى، للجيش الأحمر، في نهاية المطاف، حيلة أخرى من حيل التاريخ: الحزب الذي كان يدعو لتحطيم الإمبراطورية الروسية صار هو نفسه الشرط الوحيد لإستمرارها حتى أواخر القرن العشرين.