تمر موريتانيا ، حقا، منذ 2008 ، بمرحلة وسطى بين الاستقرار وعدم الاستقرار ؛ فلا هي مستقرة تعيش وضعية سلمية تمكنها من مواجهة مشاكل التنمية وتحديات التحولات الاجتماعية ، التي يشهدها المجتمع الموريتاني ، والتي تأخذ ، من حين لآخر، أبعادا من التوتر المتزايد . و لا هي غير مستقرة ، كذلك، بحيث تتعطل فيها ، كليا، المؤسسات الدستورية ، لتعيش البلاد قي حالة أحكام الطوارئ .
ولقد تداخلت معطيات كثيرة في تركيبة الأزمة الموريتانية فعقدتها ، حتى بات الجميع في وضع ارتباك إزاء هذه الأزمة ، التي تزداد ، يوما بعد يوم ، اندفاعا نحو المجهول. وبرغم الجهود التي يبذلها النظام الحاكم ، من جانب واحد ، في سبيل التخفيف من أثقال الأزمة السياسية عليه، إلا أن تلك الجهود باءت كلها بالفشل الذريع ، بسبب أحاديتها ، من جهة، وبسبب تعنت النظام على فرض أجندته تفصيليا، وإصراره على تصفية القوى السياسية والحزبية ، التي كانت مهيمنة على المشهد السياسي في البلاد، قبل مجيء النظام الحالي، وخاصة تلك القوى المنبثقة عن الحركات السياسية التي سادت في ثمانينيات القرن الماضي، باستثناء التيار الناصري، الذي تحلل بكل أسف ، منذ نظام الرئيس ولد الطايع، في دواليب السلطة وأحزابها وحوافها، مخلفا ثلمة بحجمه في جدار و خطاب ودور التيار القومي عموما. فالنظام الحاكم يركب رأسه ويبدي عنادا كبيرا في إخراج تلك القوى من الساحة السياسية ، عبر سلسلة من الإجراءات ، التي تأخذ مرة صيغة " حوارات مونولوغية" لا معنى لها و لا مبنى؛ وأحيانا يتمظهر عناده في ضخ عناوين " حزبية " ليس لها شكل وليس لها مضمون ، بهدف " تغليظ فتلة " الكتلة الموالية له، عدديا. وقد دفعه هذا الإصرار ، على تحييد خصومه السياسيين الفاعلين ، إلى الانكفاء داخل شرنقته الأمنية ، والتعويل على القوى التقليدية والفئوية والقبلية ؛ الأمر الذي أفرغ خطابه من كل محتوى وطني ، وحول تركيبته إلى توليفة قبلية – فئوية – عسكرتارية مهمومة بالاصطراع على المواقع الحكومية والمؤسسات العمومية ، والتموضع في القطاعات الإدارية " الدسمة " .. وهكذا، فإن النظام الحاكم ، اليوم ، ليس شيئا آخر غير محاصصة بين أوليغارشيا من زمرة عسكرتارية - قبلية – فئوية، تخفي نفسها في الشعارات العامة ، وتؤكد وجودها في الممارسات اليومية لتسيير الدولة ، تتوزع المغانم والفوائد ، مما أدى إلى شبه شلل في أداء المؤسسات الحكومية ، التي صارت قسمة بين تلك القوى العسكرية و القبلية والفئوية، الممسكة بالقاعدة الشعبية، المتضائلة ، للنظام؛ فمكنها ذلك من المسك بقواعد اللعبة في كل استحقاق سياسي ، لتظل ، منذ 2008، تحتكر مواقع التأثير في مفاصل الدولة ومؤسساتها، بفضل احتكار وسائل الدولة نفسها ومؤسساتها.
وفي مقلوب الخلفية، توجد معارضة منهوكة ، تتلاحق أنفاسها جراء الإجهاد ، ليس لها ما يجمعها إلا التوحد في المعاناة من أساليب النظام بحقها، وما يفرقها أكثر مما يوحدها ؛ إلا أنها باتت مدركة لخطورة الحرب التي يخوضها النظام ،سرا و علانية، ضدها كأحزاب وكمرجعيات تاريخية في العمل النضالي ، وكرموز وكأفراد من المجتمع. غير أن المعارضة التي تجتاز ، بشق الأنفس، هذه التحديات المصحوبة بهذا الرهان الوجودي المفروض عليها ، تدرك ، أيضا، أن حبل النجاة لها هو في وحدتها ، وتحمل واستيعاب بعضها بعضا، برغم الخلافات الإديولوجية المستعصية تاريخيا، لأن البلد ينزلق نحو المجهول، ولأن المهمة السياسية ، من أجل إنقاذه، باتت في غاية الصعوبة؛ خصوصا أنه لم يعد بالإمكان تغيير هذا النظام إلا بتغيير توليفته العسكرية القبلية الفئوية، وهو ما يتجاوز إمكانيات كل فصيل معارض، على حدة!. وهذا ما يعقد دور المعارضة ، التي ترى البلد يتحول إلى ضيعة خاصة بأقلية عسكرية وقبلية وفئوية ؛ استحوذت على الكتلة النقدية في البلد واستولت على عقارات الدولة وممتلكاتها المنقولة واللامنقولة، وصارت متحكمة في كل شيء. ومن هنا، فإن عملية تعديل الدستور الأخيرة، بقوة التزوير الفاضح، تفوح منها نذر شؤم للبلاد بصورة عامة، وللمعارضة التاريخية، التي تصارع من أجل استعادة ثقة الشعب بمستقبلها ، ومن أجل تثبيت شرعيتها ومرجعيتها السياسية المرتجة. بيد أن المعارضة ، في ضوء تصاعد السخط الشعبي ضد النظام ،واستخفاف هذا الأخير بمعاناة الشعب، قد استفادت سياسيا ومعنويا من بوادر تصدع جدار النظام وتآكل بنيته الضيقة ؛ وهذا ما أدى إلى إضعاف الروح المعنوية لزمر النخب المتحلقة من حوله ، والتي ظلت محصورة في هوامش مشهد السلطة. وعلى هذا، فإن موريتانيا تواجه أكبر خطر، غير مسبوق ، يتمثل في التوازن السلبي لوضعية الضعف بين النظام والمعارضة ؛ فلا النظام مسيطر تماما على البلاد، التي تتفلت منه باطراد، ولا المعارضة قادرة، في ظروفها الراهنة، على تشكيل البديل الفعلي عن النظام، لافتقارها إلى هوية وطنية مشتركة ومشروع سياسي موحد ومقنع، يجدان ترجمتهما في أفعال سياسية تؤثر بشكل مباشر على مجرى الأحداث ، وتجعل المعارضة صاحبة المبادرة ؛ بل إن ما تقوم به المعارضة ، حتى الآن ، هو مجرد تكتيكات قصيرة المدى وردود أفعال تشي دائما وتغري النظام بقابلية استيعابها، أو استيعاب بعض مكوناتها، برغم ضعفه وإفلاسه السياسي والأخلاقي. وفي حالة ما إذا بقي الوضع على ما هو عليه من سوء ، في ضوء معطيات الواقع، فقد تتدحرج البلاد ، لا قدر الله، نحو فراغ سياسي مفاجئ، في ظل غياب قوى سياسية معارضة منظمة تمسك، في مثل هذه الحالة، بالمبادرة وتضبط إيقاع الأحداث؛ فتملأ الفراغ ، وتكون جهة التواصل مع الجهات الدولية؛ والأخطر من كل ذلك أن التنظيمات والشبكات الإرهابية في المشرق العربي- التي يبدو أن الغرب قد استنفد غرضه منها بعد ما دمر بها أقطار تلك المنطقة – ستتجه ، " بعد هزيمتها هناك" ، بكل تأكيد نحو منطقة المغرب العربي، خصوصا وأن فراغا هائلا، سياسيا وجغرافيا وأمنيا، أصبح يمتد من موريتانيا ليغطي جميع منطقة الساحل، حتى نجيريا....!!