بين فصول كتابة ساذجة و بلا روح لتاريخ يبتدع لموريتانيا و أقل ألمعية مما يروج له، تمتد و تطول مأساة شعب خانه عدم اندفاعه إلى العمل و يده الممدودة إلى المساعدة - و تلك عادة ورثها بعد جفاف السبعينات دام إلى منتصف التسعينات ـ بين نهر لا ينتج و قد ترك لمساره الازلي ما بين النشأة و المصب، و شاطئ على الأطلسي يتعذب في العمق من سوء استغلاله، يحيطان بأرض تغص بأنبل المعادن و متنوع الثروات الطبيعية. حقيقة مرة لا يغفلها من يتمتع بالجرأة لمواجهة حقيقة أمة يجمعها في تعددها الكثير من الروابط، و تمزقها بموازاة ذلك و تشتتها مظالم عميقة من الماضي السحيق ما تزال ماثلة في تناقض صارخ مع عصر لا شبيه له في تاريخ الإنسانية. عصر مميز بعلميته العالية التي غيرت كل المفاهيم المتخلفة و المطبوعة بالصبغة الميثولوجية أي الأسطورية و بالتأويلات المضللة التي تصدر عن المتجنين على نصوص الدين و المعتقد. عصر فريد بعلمية "الإنسانية" فيه التي كسرت كل الحواجز الزائفة بين الأجناس البشرية و اللغات على اختلافها و دحضت الادعاء بنقاء أعراق و تراتبية المجتمعات الظالمة ثم رمت بكل هذا إلى محرقة التاريخ.
و تغيب مطلقا موريتانيا عن مثل هذا الواقع الجديد من دون تأويل و لا اكتراث لتظل في سياقات تلك المضامين التي غابت من حولها و قد شنت عليها في كل القارات حروب شعواء. فمنذ استقلالها في العام 1961 و هي الدولة الواقعة قبالة العالم المتوقد من خلال إطلالة سبع مائة كيلومتر من السواحل و على بعد مئات الفراسخ فقط من البحر الأبيض المتوسط التي هي أيضا بحكم الموقع جزء من منظومة جيرانه المطلين عليه، و تجد صعوبة في إيجاد مكانتها الاستراتيجية ما بين فضاءي المغرب العربي و الغرب الإفريقي على الرغم من أن كل عوامل التاريخ لم تكف يوما عن دعم هذا التوجه الذي يخول لها مكانة مريحة بين القطبين.
و طبعا فقد ظلت موريتانيا طيلة عهود طويلة أرض تلاقح حضارات عديدة و تبادل لهجرات لا تنقطع و محط أطماع كثيرة لما تزخر به من خيرات وفيرة و متنوعة. و قد شهد المستعمر الفرنسي على ذلك كما لعب دورا رياديا و حاسما في نشأة كيان الدولة الحديثة في حدودها القائمة.
فأين يكمن إذا فشل هذا البلد البادي في صلابة العود و لماذا لا يستفيد جيدا من خيراته الكثيرة؟ لا شك أن التركيبة الماضوية لمجتمعه عموما و مكوناته بشكل خاص تبقى سببا رئيسا ما زال يمنع من تفجير طاقاته الرابضة بداخله و التي وحدها تستطيع أن تمكنه من الالتحام بمنصة دول الجوار، حيث أنها مجتمعات تعيش الظلم في داخلها و تتربع فيها الأقلية من أهل الجاه المصطنع و المال المحصل أغلبه على أسس خاطئة و مجحفة و بكل كسل من نهب المال العام دون بذل أي مجهود، فيما يعاني المستضعفون أصناف الظلم تحت خط الفقر و من الإهانة و ممارسة الحيف و الاعتداء بالطرق الملتوية على حقوقهم. و هو الواقع الذي تتشابه فيه كل المكونات "العربية" و "الهالبولارية" و "السوننكية" و "الوولفية"، الأمر الذي الذي يستدعي إعادة ترتيب سريعة و في العمق حتى ينطلق التغيير من الأسفل بكل الوسائل التي تتيحها شرعية المحاربة من أجل الكرامة الإنسانية، إلى الأعلى الذي يجب أن لا يظل معبرا للمغتصبين إلى دوائر السلطة في دولة القانون.
في الهند استرجع المنبوذون كرامتهم المهدورة و قد ترجم الواقع ذاك بالمستويات العلمية العالية كسبها أبناء هذه الشريحة في كل حقول المعرفة. و في أمريكا اللاتينية استرجع كذلك الهنود الحمر و هم السكان الأصليون شرفهم و بدأوا يفرضون ذاتهم و يساهمون في بناء بلدانهم. في جنوب إفريقيا أصبحت المساواة بعد نجاح نضال الزعيم نيلسون مانديلا أمرا معيشا بين السود و البيض و السكان من أصل الهنود و بعدما كانت مضرب المثل بالعنصرية البشعة و الميز اللائنساني. و في الصين فضلت الخمسة و الستون مكونة عرقية و ثقافية رغم الغلبة المثيرة لمكونة "الهان" التي تمثل نسبة 92% من مجموع السكان، أن يتعايش الجميع في دولة تؤثر العدالة و العمل من أجل التنمية على الخلافات الغابرة و التسويات المجحفة المنتمية لزمن ولى.
في موريتانيا لم يجر بعد إعداد من أي مستوى كان منصة من أجل تقعيد "حوار" اجتماعي ضروري يرفضه مع ذلك الجميع بشكل أو بآخر و من دون أن يعلم أو يستطيع أو يميز أسباب ذلك. و عليه فإن طبقة "المثقفين" بكل مستويات أفرادها التعليمية العالية لم تترجم ذلك إلى واقع رفيع بل إنها حولته إلى غياب أي التزام منها بتغيير العقليات و بناء صرح دولة القانون للجميع. و إنه بهذه السلبية لا تفتأ تحشر البلد في وضعية خطيرة و شاقة.
كما أن هؤلاء المثقفين المنوط بهم الدفاع أيضا عن طبقتهم إنما يدعمهم في "لا أهليتهم" هذه السياسيون الذين لا يملكون خطابا جوهريا و لا يتحلون بقناعات وطنية في العمق، و أيضا مجتمع مدني مصاب بالربحية و النفعية و بلعبة التوافقات و الصفقات المدرة. و لا يبدو هؤلاء أيضا أنهم قادرون على رفع تحد هام يترتب عليه حسن تأسيس دولة القانون و المواطنة و التي يطمحون في نهاية مطاف كل نشاطاتهم ونضالاتهم و حراكاتهم السياسية إلى حكمها و إدارة شؤونها.
فهل يمكن إذا من هذا المنطلق اعتبار أن البلد واقع تحت تهديد "سيف داموكليسEpée de Damoclès" نظرا إلى الوضعية السياسية و الاجتماعية القائمة منذ استقلال البلاد و المطبوعة قدريا بتداخل "اللا أهلية" في رفع التحديات مع الاستكانة الناجمة عنها.
و مع كل هذا فإن كل الطرق التي سيسلكها حتما السياسيون و المثقفون و الفاعلون في المجتمع المدني إن عاجلا أم آجلا ستلتقي كلها عند عتبة الحوار الاجتماعي المتحضر الذي لا وجهة غيره من أجل موريتانيا و إذ هي ليس لها إلا أن تخوضه لضمان مستقبلها المستقر. و يجب خلاله طرح كل المسائل العالقة و تناولها دون قيود بدء بالمسألة العرقية و قضية الشرائح "الدونية" مرورا بمسألة توزيع خيرات البلد إلى حيز مسألة "الحكامة الرشيدة" بكل أبعادها و تجلياتها. كما يجب أن تنال كل هذه المسائل حظها كاملا من النقاش حتى يرفع كل حرج و تشفى النفوس من الظنون و يغيب شبح الحسابات الضيقة و لتضبط من بعد وقت الوطن على ساعة القرن الواحد و العشرين، و الحراك إلى الاستقرار و التقدم على إيقاعه و نغمته.