لعل متتبع الشأن السياسي في المغرب يلامس النقاش المفتوح حول التقريرين المقدمين من طرف أمريكا ومحاولة النخبة السياسية المغربية التصدي لهما ،عن طريق تعبئة المغاربة بالأكاذيب المفبركة لنيل من مصداقية التقريرين المتعلقين بقضية الصحراء و وضعية حقوق الانسان ، اللذان اثير حولهما جدل واسع و استياء حكومي غير مسبوق فعبؤوا كل الإمكانيات للتنقيص من دور التقريرين الذكورين فعاشت دبلوماسيتنا حالة من الغليان الداخلي في محاولة للتخلص من مسؤوليتها أثناء تدبيرها للملفات ،التي كانت على الدوام ملف الوحدة الترابية احد مرتكزات وأولويات وزارة الخارجية .فلوحظ الارتباك البادي على المسؤولين ،ما أفرز لنا غضبة إعلامية محلية لا يمكن أن نصنفها إلا في إطار الخطاب الشعبوي.
فجندت الأقلام المأجورة ذخيرتها فحاول البعض محاكمة أمريكا بكونها ليست مثالا يحتذى به في الحقوق حتى ترسم عن المغرب بتقاريرها صورة قاتمة ،و تضرب عرض الحائط الجهود المبذولة من طرف المملكة للوفاء بالتزاماتها أمام المنتظم الدولي، وصور لنا البعض الأخر أمريكا على هيئة شيطان يثيره الدم و الحرب فنعتت بكل الأوصاف القدحية، في حين تناسوا أنها الفاعل و نحن المفعول به ،و لن نقدر على السباحة خارج الحدود المرسومة لنا، بل ننتظر في كل سنة إرشادات ماما أمريكا . لن ينال هؤلاء و لا أمثالهم سوى من أمثالنا المضطرين إلى شراء جرائدهم ليس حبا في المحتوى بل كعادة يومية نمارسها.
فان كانت أمريكا حسب رأيهم ليست جديرة بمحاكمة المغرب فيا ترى من الجدير بذلك، مادامت كل التقارير المقدمة حتى من لدن المنظمات الغير الحكومية تقر بان التقرير المقدم تشوبه الكثير من النواقص . كان بالأحرى على السياسيين دراسة التقرير الأمريكي و تبيان التزامات المملكة في الجانب الحقوقي و نقاط ضعفه عوض الانجراف الى مستنقع الشخصنة ، كما كان لازما على المعارضة الدعوة الى يوم دراسي لتقييم عمل الحكومة و المناداة بتجاوز حقبة الهرمكة أمام برلمان الشعب، ومحاسبة كل من ارتبط اسمه بالجرم المرتكب في حق الأساتذة المتدربين . ان كل المتتبعيين للوضع الحقوقي بالمغرب يقرون اننا في تراجع مستمر،و ان الخروقات التي طبعت المرحلة كثيرة ،و يؤكدون على ان الحكومة الملتحية لم تكن رحيمة في تعاملها بل كان أكثر قسوة مع المحتجين فلم يسلم من عنفها سواء الطلبة والمعطلين او الأساتذة و الأطباء و العمال ، بل تعاملت معهم بقدر من المساواة في الهرمكة و تفننت في وسائل الضرب و الرفس . فكيف لهؤلاء الذين يدعون الوطنية ان يحاولوا و يؤكدوا لنا أننا امام مؤامرة لضرب استقرار المغرب، فيروجون لمسرحية اسماها الفوضى الخلاقة محاولين تأكيد ذلك عن طريق الربط بين التقريرين، الاول المتعلق بقضية الصحراء و الثاني بوضعية حقوق الإنسان . ربما يحاول هؤلاء استغباءنا الى هذه الدرجة و يرغبون في التفكير مكاننا ،عندما يدعوننا الى الإيمان بما يكتبونه دون ان نعمل العقل و التمحيص في افتراءاتهم فنحن في اعتقادهم نحتاج لإجماع وطني ، يا سادة يا من يدعي المهنية لسنا بهذه الدرجة من الغباء اذ لا يمكن الجمع بين التقريرين فالأول يعني المنطقة المتنازع عليها منذ 1975 بل اكثر من ذلك فهي مدرجة في خانة تصفية الاستعمار منذ 1964، فهي ليست معنية لا من قريب أو من بعيد باسطوانة الفوضى الخلاقة المبتكرة بعد غزو العراق و بضبط سنة 2005 ، اما التقرير الثاني فهو مرتبط بالوضع الحقوقي بالمغرب و الذي تناقلته عن قرب كاميرات الأساتذة المتدربين عندما كانت هراوات المخزن تنهال على رؤوسهم، إن من يدعي الوطنية يجب أن يدعو أولا لمحاكمة الجناة و ليس بالتستر و إيواء المجرمين وحمايتهم. حتى لا يخرج محتوى مقالي عن سياقه لا بد من تفكيك مصطلح الفوضى الخلاقة الذي حاول إعلامنا المكتوب إقناعنا بمحتواه و المرتبط ارتباط قويا بمفهوم المؤامرة التي يحاول البعض اقناعنا بكونها تحاك ضد المغرب . للتفصيل في هذا المفهوم لابد من وضعه في إطاره الزماني ، فيعود بنا الزمان الى المقابلة التي أجرتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس سنة 2005، حول مستقبل الديكتاتورية والحكم الفردي في الشرق الاوسط ،حين صرحت بكون الديمقراطية أساس بناء الدولة الحديثة و ان شعوب الشرق الأوسط في تأثر مستمر بآليات الحكم الغربي ، مما سيولد لا محال صراعا عنيفا بين فئة تعتقد بأنها خلقت لتحكم، و أخرى ترى في طرق تسيير نظام الحكم أنها تقليدية و بدائية لا بد من إصلاحها او استئصالها ، فما حصل في تونس لا يخرج عن دائرة وجوب إنهاء الحكم الفردي لنظام بن على نفس الشيء ينطبق على مصر و اليمن و ليبيا ، مادام المشككون لم يقدموا لنا سبل إسقاط الأنظمة المستبدة التي لا ترغب بمشاركة السلطة مع احد دون قطرة دم ،لذلك يبقى سيناريو التصادم هو المرجح . اما على مستوى الرقعة الجغرافية فهذا المفهوم الغامض و الذي بات يحتل مكانة مرموقة في النقاش العمومي يجب ان نؤكد انه مرتبط برقعة جغرافية معينة لا يمكن لها ان تؤثر في مصير شعوب شمال إفريقيا مع وجوب استبعاد مصر ضمنها ،لكن الى ان بعض الأخطاء التي طبعت ما بعد حقبة 2011 خصوصا بعد تأسيس نادي الملكيات يمكن القول ان وضعية الشرق الملتهب أصبحت تعنينا و باتت تمثل شأننا داخليا بعد أن تم رهن مصير شعبنا بدعاة الحرب و الدمار . اما في ما يخص بعض الشروط التي يجب توفرها لإنجاح مشروع الفوضى الخلاقة حسب المقتنعين بها، يمكن حصرها في ضرورة وجود المشاكل الاجتماعية او الدينية او العرقية او السياسية التي تزكي التفرقة ،و اعتبرها المدافعون عن نظرية المؤامرة بمثابة وقود للصراعات المسلحة، لكن المقدمين لهذه الوصفة يتناسون كون الإقرار بوجودها يحيلنا مباشرة الى طبيعة النظام المعني بمشروع الفوضى الخلاقة ان بكون مستبدا و متسلطا وفاسدا ولا يستند الى أي مشروعية مادام: أولا :غير قادرة على التعامل مع مواطنيه بنوع من الاستقلالية من اجل اقرار الحق و النهي عن الباطل، في ظل نطام يرجح كافة الشعي على السنى او العربي على الكردي، فمثل هذه الانظمة مازال حكامها يعتقدون ان الدولة هي الشخص الواحد الذي يجب على الجميع الانصهار فيه ،فيتشبتون بمفاهيم مثل الدول الاسلامية او العربية مما يوحي لنا بان العقول التي تحكمنا يطبعها نوع من التحجر و البدائية، فهم غبر قادرون على فهم ان الدولة مؤسسات تحفظ للجميع حقه و لا تمثل أي كيان. ثانيا: في كونها غير قادرة على تدبير و تسيير دواليب الحكم لتفشي مفهوم المراكز السامية الممنوحة للمقربين فقط ، مما يصعب معه محاسبة المسؤولين و بالتالي يعني مباشرة عدم القدرة على محاربة الفساد المتفشي داخل مؤسساتها . ثالثا : يرتكز في عدم استطاعة الحكام الايمان بمفهوم تداول السلطة فنكون امام الحزب الذي لا يهزم و لن يهزم، و امام الحاكم المعمر كثيرا و القابض بزمام الأمور و المستحود على جميع السلط و الغير الراغب باشراك أي احد في تدبير الشان العام، فهو بمثابة الرجل الخارق يحتل الرتبة الاولى في كل شيء، و يقرر في حياتنا دون غيره سواء اكان على صواب أو خطأ .
لا يخلوا أي نظام من بعض المشاكل (المتعلقة بتعدد الاثنيات و اختلاف التقافات...)فهي مجرد شكليات بالنسبة للأنظمة الديمقراطية ، لذاك لا تتبوأ مرتبة الإشكالات العويصة التي يجب علاجها فالدولة للجميع تصهر على تلبية حاجة مواطنيها دون اي تقصير و تمنح للاقليم ذات العرق او اللهجة المحلية امكانية تسيير نفسه ذاتيا فتحد بذلك من النزعة الاتشقاقية لديهم او تحتويها، و في المقابل يصبح التعدد اللغوي مشكلا عويصا لا يمكن تجاوزه في ظل الانظمة المستبدة بل يتعداه ليكون عقبة امام التطور و التقدم. لم تعد للمؤامرة اي مكان في مخيلة الانسان العربي بعد احداث الربيع الديمقراطي، فركائز الأنظمة تهاوت بعد ان أصر الحكام بالتمسك بكراسيهم، بل هناك من الانظمة من تشبتت به امريكا حتى اخر رمق ، مما يفند شكوك من يعتقدون ان الربيع الديمقراطي من تخطيط فاعل بل يزكي أطروحة انه نتاج وضع قابل للانفجار في اي وقت . ألم تكن امريكا الى جانب حكام فاقدي الشرعية بل منهم من تبوء درجة الحليف، و قدمت لهم الدعم الكافي للبقاء في منصب الرئاسة ،و لو حتى على الكرسي المتحرك، قد يتمسك اصحاب نظرية الفوضى الخلاقة باطروحتهم المشوهة المعالم و الرديئة الاخراج، فيأتون بمقولة ريتشارد بيرل عندما صرح بان العراق الهدف التكتيكي و السعودية هي الهدف الاستراتيجي أما مصر فاعتبرها الجائزة الكبرى ، لكن يا ترى اذا ما استثنينا عراق صدام هل تناقضت السعودية و مصر في يوم ما مع مصالح امريكا ؟ بالطبع لا. فلا احد تجرأ على ضرب مصالحها بل كانوا حلفاء لها في احتلال العراق وشنوا هجوما إعلاميا لادغا على نظام صدام . ان من يروج لمثل هذه الخرافات هم بمثابة دجالين في عالم السياسة ، يحاولون التنصل من مسؤولياتهم فيتهمون الاخر الغير الظاهر بكونه المسؤول عن نتائج اخطاءهم ، فيا اصحاب الخيال الواسع هل امريكا او غيرها هي من يحمل الهروات و تكسر العظام المعطلين و تهشم جماجم الاساتذة المتدربين و تسعى لقطع أرزاق العمال و تعتقل الطلبة المحتجين ؟؟
هذه الطرق لم تعد وسيلة لصرف الانظار عن الازمة بل هي تصريح ضمني يدل على فشلكم في تدبير شؤوننا، فتنعتون امريكا بالشيطان لتتبوؤا مكانة المؤمن التقي اذا ما اخطأ فهو من عمل الشيطان و اذا ما اصاب فهو من عمله، ان ما وقع على مستوى شمال افريقيا و الشرق الاوسط صورة طبق الاصل لما تخفيه لنا الايام، اذا ما اسدل الستار عنها اكتوت كل البلاد بنارها فلا مفر لكم من ان تكونوا صرحاء امام ذاوتكم قبلنا و ان تعرفوا الى أي خندق تردون ان تسقطوا فيها اهاتنا فنحن سيان اما الغرق أو الإنقاذ .