كم هو عدد النقاد في هذا البلد من منتجين، محيطين، مدركين و ملمين بالموجود من الإنتاج في دائرة كل المخرجات الأدبية بشقيها الشعري و السردي و الفنية بكل أصنافها من مسرح و سينما إلى الرسم و تشعباته و النحت و مدارسه و جوهر الفلكلور و مميزاته الإبداعية و في العطاء السياسي و الفكري؟ إن عددهم بكل أمانة و تجرد لا يتجاوز في مجمله أصابع اليدين، غير الأكاديميين الذين يُدرسونه نظريا مادة في الجامعات و هم كثر يؤدون واجبهم التدريسي بأمانة عالية و كفاءة مشهودة و لكنهم غير مشاركين عمليا في إصباغ أصول هذا النقد على المادة الخام المنتجة في ساحة العطاء و الإبداع الأدبي و الفكري و الفني و الممارسة السياسية. و هو التناقض الصارخ الذي تظهر تأثيراته السلبية و تداعياته المثبطة جلية على ما هو حاصل من تعثر الحراك العام لكل أوجه العطاء في هذه الحقول من خلال الكم القليل و الكيف الهزيل.
و إنه من خلال المتابعة والإحصاء للمنتج الأدبي الحاصل على مستوى الساحة الموريتانية، وما يفتقر إليه من دراسة نقدية، وتحليلات نصية، يظهر جليا غيابُ حركة نقدية مسايرة تترصد أي تطور إبداعي ترمي به على حين غرة قريحة متوهجة، و يكشف بوضوح عن ضعف مستوى المسار الفني الذي يتخبط فيه النص الأدبي، والمثقف الموريتاني في ذات الوقت على مبلغ ضعف العملية الإبداعية أو العملية النقدية ذاتها و حدودها و آلياتها الإجرائية وتوظيفها.
وكما هو معلوم فإن الحديث عن النقد الأدبي في موريتانيا ضرب من الخوض في المعلوم بضعفه و أنه يضم قضايا متعددة، لعل أبرزها قضية الوعي النقدي نفسه ومدى ضعف تمثله وتجسده في الممارسة كما سلف و أن الطرح الموضوعي لهذه الإشكالية النقدية بطبيعة الواقع القائم هو كذلك طرح شاق تعترضه الرتابة الفكرية تارة و إنزلاقاتها التي تحكم سواء بوعي أو بغير وعي المنهج البحثي في الممارسة النقدية تارة أخرى.
و لأن النقد كما هو معلوم استعمال منظم للتقنيات غير الأدبية، ولضروب المعرفة، في سبيل الحصول على بصيرة نافذة في الأدب أو الفن أو الفكر فإنه من الضروري إزالة كل ما يمكن أن يحيط به من لبس أو غموض و مبالغة في المجاملة المدمرة و كل ذلك من خلال تحديد دقيق لحدود إشكالية النقدية في موريتانيا و إبراز الترابط المنطقي بين الوعي الفكري والأدبي و الفني و بين الممارسة النقدية ومسألة المنتج الإبداعي، على ضوء المناهج النقدية المتعارف عليها في المساحة الإنتاجية و شاملة تعدد زوايا النظر للإبداع علما بأن المبدأ الأدبي سيظل مدخلا طبيعيا لنقد أي عمل إبداع و ذلك لأن المادة الخام هي البوابة الرئيسة الخاصة بالعبور إلى فضاءات الإنتاج في كل هذه الحقول، والعنصر الأساس المساعد على كشف ما يزخر به هذا الإنتاج من عمق فكري وفني وروحي، وبالتالي الوقوف على أبعاده ومدى قوته التواصلية و حتى تثبت قاعدة أن الأعمال المنتجة في حد ذاتها تمثل النبع الذي تتولد منه المناهج النقدية والبوابة التي تمكن من النفاذ إلى جوهرها و استقصاء مردوديتها.
فكيف بهذا الوضع أن لا يصيب الساحة الفكرية و الأدبية و الفنية و السياسية بالقحط الإنتاجي و كيف له أن لا يجعلها تشكو نضوب العطاء و تندب حظها العاثر في قلة الكم و هزال الكيف؟
و ماذا يَجدُر بالغيورين عملَه و بالرافضين الاستسلام لتداعيات هذا الأمر الذي يكاد يتحول إلى واقع لصيق بالحاضر مصاحب للمستقبل و نافي للماضي يَسلب البلاد هويتها و يمزق على خصوصيتها و ينفي دورها؟
أو ليس النقد البناء و النقاد الأكفاء المتجردون و الحياديون النزيهون فكريا هم جميعهم و معا المسؤولون عن قوة الحضور في هذه المرحلة الحالكة عن ترتيب بيت العطاء الفكري و الأدبي و الفني و السياسي و تقويم المعوج و توجيه البوصلة إلى الاتجاه الصحيح و تجنب الصدام بالأمواج حتى الوصول إلى بر الأمان.