ما بعد الأحادية القطبية: من روسيا إلى الصين

أحد, 12/27/2015 - 12:59
 حديث السبتد. محمد بدي ابنو

“السياسة أشدّ خطورة من الحرب. في الحرب ليس من الممكن أن تُقتلَ إلا مرة واحدة. أما في السياسة فمن الممكن أن تُقتلَ عدة مرات” ينسب إلى تشرشل

ـ1ـ

منذ السنوات الأولى للألفية الحالية كما هو معروف بدأت الأحادية القطبية التي أعقبتْ الحرب الباردة تتراجع. بدأت تدريجيا مرحلة التعددية القطبية. أما روسيا فقد شرعتْ في الخروج شيئا فشيئا من صدمة التسعينات. الدولة الممركَزة أخذتْ تطفو على السطح. أخذتْ تستعيد بشكل خاص قبضتها على الشركات الاستراتيجية وعلى القطاعات الرئيسة ولاسيما البترول والغاز الطبيعي. كما بدأت خططُ إعادة بناء الجيش الروسي.

ـ2ـ

تنبني العقيدة الروسية منذ عقد ونصف على اعتبار انهيار الاتحاد السوفيتي كارثة كبرى. الاستراتيجية الروسية منذ بداية الألفية مبنية على ثلاثة محاور مرتبطة. سياسة اقتصادية تستثمر من ناحية مصادرها الطبيعية الهائلة (النفط، الغاز الطبيعي إلخ.) وتحاول أن تسترجع قدراتها الصناعية عبر تطوير كفاءاتها العلمية والتقنية الواسعة. وسياسية إعادة تأهيل وتسليح ضخمة على الصعيد العسكري ومركزية دولتية تأميمية على النمط البونبرتي. وكما هو معروف فإن منتقدي هذا النمط “البوتيني” يعتبرونه ارتكاسا نحو النموذج البيروقراطي السوفيتي وحتى القيصري.

ـ3ـ

لا شك أن هذه النزعة التأميمية الدولتية في روسيا لا تخلو بداهةً من جوانب أوتوقراطية ومن مركزية هرمية حادّة. في جميع الأحول فهذه الاستراتيجية قد أظهرتْ تحولا في العلاقات الدولية. لقد اتّضحَ أن روسيا تُصرُّ كليا على إيقاف تمدد الاتحاد الأوربي، وصدّ توسّع نفوذه والحدّ من انتشار نموذجه “الليبرالي” في البلدان المحيطة بها أي في الجمهوريات الموروثة عن الاتحاد السوفيتي. وشرعتْ مع عدد من الشركاء الإقليميين (خماسي شنغهاي ثم منظمة شنغهاي للتعاون، الصيغة المطورة لرابطة الدول المستقلة، الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي وقبله المجموعة الاقتصادية الأوراسية إلخ) والدوليين (مجموعة البريكس) في وضع ما تراه هذه البلدان مشاريع منافسة لـلمشاريع الغربية الجيوستراتيجية. هنالك في الخلاصة اصطدام روسي غربي متزايد. كانت العلامة الفارقة في هذا الأساس هي الأزمة الأوكرانية. معطيات كثيرة تكشف أن دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة فوجئت في أوكرانيا بقدرات روسيا العسكرية والتطور الذي عرفتْه خلال ستّ سنوات أي منذ الأزمة الجيورجية سنة 2008.

ـ4ـ

طبعا للتدّخل الروسي في سوريا والذي أخذ يتضاعف بشكل واسع منذ الصيف الماضي أسباب عديدة معروفة. ولكن الصراع الروسي الغربي هو أحد أبرز هذه العناوين. روسيا تعتبر أن الدول الغربية وظفتْ الربيع العربي لطردها من آخر مناطق نفوذها في العالم العربي. بشكل خاص تعتبر روسيا أن “مرونتها” سنة 2011 في الملف الليبي حيث لم تستخدم الفيتو لمنع اقرار 1973 (اكتفتْ في مجلس الأمن بالامتناع عن التصويت على هذا القرار) الذي مثَّلَ الغطاء الدولي للتخل الغربي في ليبيا لم تُقايَض إلا بما تراه شراسة غربية لا حدود لها ضدّ المصالح الروسية. سوريا بهذا المعنى (موقعها الجغرافي، التقاطعات السياسية التي تمثل إلخ.) تختصر دلالات كثير من المطامح الروسية المتصاعدة. وهي غالبا مطامح سوفيتية، وأحيانا قبل سوفيتية، تطفو من جديد شيئا فشيئا على السطح.

ـ5ـ

هل يعني تطور الأوضاع في سوريا أن المواجهة الروسية الغربية إن صحتْ التسمية (وهي مواجهة قد تأخذ شكل “التقارب” الميداني) قد بدأتْ تخرج من أوربا ومناطق أوراسيا إلى دائرة ثانية من دوائر صراع النفوذ الموروثة هي الأخرى عن الحقبة السوفيتية ؟ هذا على الأقل ما تذهب إليه الآن أغلب التحاليل. بعض المؤسسات البحثية في أوربا الشمالية لا تتردّد في الحديث في تقاريرها عمّا تسميه الحرب الروسية الأمريكية بالوكالة في سوريا (مثلا مركز الأبحاث حول العولمة في مونتريال أومعهد كاتو في واشنطن). والأخير يتحدث عن حرب بالوكالة مجنونة، من وجهة نظر المصالح الأمريكية. وهو ما لا تخفى دلالته. ولكن ما تزال بداهةً بعضُ المعطيات والتحولات الجارية في هذا المستوى لم تقل كلمتها الأخيرة.

ـ6ـ

من المؤكد على الأقل أن الغربيين ينظرون بتخوف كبير إلى روسيا وطموحاتها. وعكسا للطبيعة الحذرة للصين مثلا فإن السياسة الروسية أظهرت أنها لا تتردد في التدخل العسكري خارج حدودها المباشرة. كما أن روسيا أثبتتْ عمْدًا للدول الغربية أنها لا تشعر بنفس التخوفات الموجودة لدى الأخيرة أو لدى صناع قرار الأخيرة (طبيعة سلالم اتخاذ القرار، التخوف من المحاسبة إلخ). هل يعني ذلك أن روسيا قد بنتْ لنفسها صورة سياسية وعسكرية رادعة أم أنها فقط وضعتْ نفسها بتسرّع في مرمى الاستهداف الغربي؟

ـ7ـ

لنتذكر أنه بالرغم من أن العلاقات الروسية الصينية ظلت في تصاعد وتوسّع خلال العقدين الأخيرين وأنه أريد لها عبر المشاريع الطاقية الضخمة أن تكون استراتيجية فإنه من العسير الحسم الآن في صلابتها في الأمد المتوسط. منذ سنة فقط كانت روسيا وتركيا تتحدثان عن مشاريعهما الطاقية كجزء من تحالف اسراتيجي. معطيات التاريخ الحديث تثبتُ إمكانية تفكك التحالف الصيني الروسي. وهو على الأقلّ ما تراهن عليه تيارات نافذة في الولايات المتحدة. لنضف هنا في المقابل أن العلاقات الاقتصادية الأمريكية الصينية ظلتْ أيضا في تصاعد وتوسع وما تزال. ولكن استمراريتها على الأمد المتوسط بنفس الإيقاع أمر يمكن التشكيك فيه. فحين تصل السوق الصينية إلى مستوى متقدم من الاستقلال الذاتي ـ ربما في أقل من عقد ـ أي حين تتراجعُ الأهمية الاستراتيجية للسوق الأمريكية والأوربية بالنسبة للصين فإن باب احتمالات غير قليلة سيُفتح. وهو بالتعبير الخلدوني ” أمر له ما بعده”.

*  مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل