أمام غرف الحالات الطارئة، بمشفى الشيخ زايد في العاصمة الموريتانية نواكشوط، يرابط أمحمد ولد سيد أحمد، في انتظار أن يحظى ابنه المصاب بالحمى بمعاينة الطبيب، حال نجل أمحمد لا يختلف عن عشرات المرضى، والذين اكتظت بهم غرف الفحص، ممن يعانون الحمى التي استهدفت المئات من الموريتانيين، بينما تثور التساؤلات حول نوع الحمى التي بدأت تنتشر قبل أشهر، في عدد من المدن الموريتانية أبرزها العاصمة نواكشوط.
يعبر ولد سيد أحمد عن خشيته من أن تكون الحمى، والتي أصابت ابنه، من النوع المعروف بالحمى النزيفية التي كثر الحديث عنها، والتي تفشت داخل معظم المراكز الصحية بالعاصمة وخارجها، مشيرا إلى أن الجهات الصحية المختصة لم تقم بنشر تفاصيل أعراضها، أو توزيع مناشير ودوريات صحية تجعل من السهل على المواطنين معرفة المصابين بالحمى.
مساء اليوم، كشف وزير الصحة الموريتاني أحمد ولد جلفون، أمام نواب البرلمان الموريتاني، عدد الوفيات المسجلة خلال الأشهر الماضية بفعل الإصابة بحمى الوادي المتصدع، قائلاً إنها بلغت 12 حالة وفاة مؤكدة من بين المصابين بالمرض، بينما تماثل للشفاء 23 مريضاً بعد تأكيد إصابتهم، محملاً المنظومة البيئة بموريتانيا مسؤولية انتشار الملاريا وحمى الضنك وحمى الوادي المتصدع (تتحول إلى حمى نزيفية مع تقدم المرض)، بفعل البعوض الناقل للأمراض.
وقال الوزير إن قطاعه تعامل بمهنية واحتراف كبيرين مع المؤشرات الأولية التي أظهرتها نتائج الفحص في دكار، إذ أكد معهد "باستر" وجود حمى الضنك ببعض المقاطعات في العاصمة نواكشوط، وخصوصاً عرفات وتوجنين ودار النعيم وتيارت.
ما هي الحمى النزيفية؟
تصف منظمة العالمية الحمى النزيفية الفيروسية بالمرض الوخيم، وتقول المنظمة في تعرف المرض، على موقعها الإلكتروني، إنه يأتي مصحوباً بنزف في بعض الأحيان، قد يسببه عدد من الفيروسات. وعادة ما ينطبق هذا المصلح على المرض الناجم عن الفيروسات الرملية (حمى لاسا وحمى جونين وحمى ماتشوبو)، والفيروسات البنياوية (حمى القرم - الكونغو النزفية، حمى الوادي المتصدع النزفية وحمى هانتان)، والفيروسات الخيطية (الإيبولا وماربورغ) والفيروسات المصفّرة (الحمى الصفراء وحمى الضنك وحمى أومسك النزفية وداء غابة كياسانور)، وتنتشر حمى الضنك في موريتانيا، وهي مرض متوطن في أكثر من مائة بلد، انضمت إليها موريتانيا.
وبحسب منشور لمنظمة الصحة العالمية فإن الحميات النزيفية الفيروسية لها سمات مشتركة فهي تؤثر كلها على العديد من الأجهزة في الجسم، كما تؤذي الأوعية الدموية وتؤثر على الجسم بحيث لا يستطيع تنظيم نفسه. تسبب بعض أنواع الحميات النزفية الفيروسية مرضاً معتدل الشدة. لكن بعضاً آخر، كفيروس إيبولا وفيروس ماربورغ، يسبب مرضاً شديداً يؤدي إلى الموت. وأنواع الحميات النزفية الفيروسية موجودة في العالم كله. لكن هناك أمراضاً بعينها لا توجد إلا حيث تعيش الحيوانات التي تحمل فيروساتها مثل الفئران.
فوضى العلاج
وثق معد التحقيق، عبر إفادات من ذوي المرضى، في عدد من مؤسسات نواكشوط الصحية، وشهادات مراجعين، حالة الفوضى التي شهدتها المستشفيات والمراكز الصحية داخل العاصمة نواكشوط، عقب انتشار المرض، والتي جعلت من السهل انتقال عدوى الحمى داخل المؤسسات الصحية، إذ لا يوجد عزل صحي للمصابين بالأمراض المعدية، كما أن ضعف الإمكانات لدى بعض منها يستحيل معه إجراء أي فحوصات من شأنها أن تظهر أعراض أي مرض معدٍ.
عدد من المراجعين طالبوا بضرورة نشر الوعي الصحي بين السكان من أجل التصدي لأي مرض وافد من شأنه أن يؤثر سلباً على صحتهم، ويقول الطبيب الموريتاني، سيدي أحمد محمد، إن "طريقة التعامل مع أعراض المرض تغيب عن الكثيرين، والتي قد تكون معرفتها أهم وسيلة للتخفيف من المرض".
ودعا محمد مواطني بلاده إلى الحرص على النظافة، وتجنب الاختلاط مع المصابين بالمرض دون أخذ الاحتياطات اللازمة، وتطهير أماكن سكنهم بالمبيدات الحشرية، كما دعاهم للنوم تحت "الناموسيات"، لارتباط الحمى بلدغ البعوض، وانتشار الأوساخ أمام المنازل.
وكانت مواقع التواصل الاجتماعي في موريتانيا قد شهدت انتشاراً لنصائح مواجهة الحمى النزيفية، والتي تدور حول تطهير الأيدي بمعقم والوجه بصابون في حال الاختلاط مع مصاب بالمرض، ووضع مطهر طبي للجراح على الرجلين واليدين في الأماكن التي يكثر فيها الناموس، وتناول حبة يومياً من دواء نيفاكين للوقاية من تأثير لسعات الناموس.
تعتبر "حمى الوادي المتصدع" النزيفية مرضاً فيروسياً يصيب الحيوانات بالدرجة الأولى، إلا أن الحمى تنتقل إلى البشر من التماس المباشر أو غير المباشر مع دم أو أعضاء الحيوانات المصابة، بحسب توضيح منشور على موقع منظمة الصحة العالمية.
حجب الحقائق لم ينجح
انتشرت الحمى النزيفية قبل أكثر من شهرين في موريتانيا وسرعان ما تعددت أسماؤها انطلاقاً من المنطقة التي انتشرت فيها من العاصمة نواكشوط، وسماها بعضهم (حمى عرفات) نسبة لمقاطعة عرفات في العاصمة نواكشوط، والتي شهدت عدداً كبيراً من الإصابات، مروراً بتسميتها "حمى الضنك" وانتهاء بإعطائها اسماً نهائياً متفقاً عليه، إذ سميت بالحمى النزيفية.
يؤكد الناشط الشاب محمد حسن ولد محمد أن الجهات الرسمية أكدت أن معظم الحالات المرضية التي ظهرت في العاصمة نواكشوط وبعض المدن الداخلية تعتبر حمى نزيفية، وأن العينات التي أرسلت، إلى العاصمة السنغالية دكار، لإجراء التحاليل الطبية عليها ثبت أنها عينات من مرض الحمى النزيفية، وهو ما أثاره الموريتانيون، أكثر من مرة وحاولت الجهات الصحية إخفاءه وحجب حقيقة المرض بعيداً عن الأنظار.
يتابع الناشط المهتم بالوضع الصحي أن حجم الإصابات التي حدثت وتعددها، بالإضافة إلى سرعة انتشار فيروس الحمى النزيفية بين صفوف السكان بموريتانيا، أفشل مخطط الجهات الرسمية في حجب الحقيقة، معتبرا أن العديد من الإصابات أعطيت عنها معلومات مغلوطة بأنها حمى الملاريا، أو حمى الضنك، لكن الحقيقة كانت أكثر من صادمة لقطاع الصحة الذي أزعجته نتائج التحاليل الواردة من العاصمة دكار، والتي أظهرت أن الوباء هو "حمى نزيفية" معدية وقاتلة.
تحذير للأطباء
أطلق الطبيب الموريتاني، محمد المختار ولد وديه، إبان بدء انتشار مرض الحمى النزيفية، تحذيراً للأطباء المباشرين للحالات الطارئة بالمستشفيات العمومية والخصوصية، من تقديم وصفة الـ Aspegic المخصصة لعلاج الملاريا، لخفض تأثيرات الحمى لدى المرضى، مشيراً إلى أنه تأكد بعد معاينة مائتي حالة أن المرض المنتشر هو حمى الضنك وليس الملاريا، وأن الوصفة المذكورة تفاقم حالة المريض، بالحمى النزيفية.
ورأى ولد وديه في منشور على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) أن "وجود الفيروس المسبب لحمى الضنك ومادة الـ Aspegic في الجسم يضاعف من خطر الإصابة بالنزيف، مؤكداً أنه عالج حالة قدمت لها العلاجات، باعتبار المريض مصاباً بالملاريا، لكن الحالة تفاقمت إلى أن وصلت إلى "قيء يحوي على دم مع انخفاض في عدد الصفائح الدموية عن الحد الأدنى المعروف"، واصفا حينها نفي وزارة الصحة لوجود هذه الحمى بالغريب وغير المهني.
بلد ينزف
أطلق الموريتانيون على موقعي التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر، هاشتاغ بلد_ينزف في إشارة إلى تفشي وانتشار الحمى النزيفية بين السكان، مطالبين الجهات الرسمية بضرورة الإسراع لمواجهة المرض المعدي، معتبرين أن أي تأخر عن احتوائه يعتبر تقصيراً وتفريطاً في أرواح مئات المصابين وآلاف الضحايا الذين قد يصابون مستقبلاً بالمرض.
وتفاعل عدد من أهالي المرضى مع دعوة للتظاهر، أطلقها ناشطون، للاحتجاج أمام وزارة الصحة محملين العاملين في القطاع الصحي مسؤولية انتشار المرض، ورفع المحتجون شعارات من قبيل "تفشي الحمى دليل على فشل السياسيات الصحية" و"هل أرواحنا رخيصة لهذا الحد" و"أخذتم كل شيء إلا المرض وزعتموه علينا بعدالة" و"كفاكم مصاً لدمائنا" و"لا للتعتيم ومغالطة المواطنين"، وحذر المحتجون من كمون الفيروس وعودته مرة ثانية.
محمد الأمين ولد سيدي، أحد المشاركين، في الاحتجاجات على الإهمال الحكومي في مواجهة الحمى النزيفية، إذ أصيب ثمانية من أفراد أسرته بالمرض، يقول ولد سيدي لـ"العربي الجديد": "لم يستطع مركز الاستطباب الوطني استيعاب كافة المصابين، بل إن العجز تجاوزه إلى كافة المراكز الصحية داخل البلاد"، مشيرا إلى اعتقاده أن الفيروس كامن في المرحلة الحالية، إذ لم يسمع عن تزايد حالات الإصابة بالمرض في منطقته بنواكشوط، لكنه حذر من عودة الفيروس الكامن، وحصده المزيد من الأرواح في حال استمرت السياسة الصحية القائمة، في إنكار المرض، ومصارحة الشعب بحقيقته.
تحرك رسمي متأخر
يرى مصدر طبي في وزارة الصحة الموريتانية أنه تم القضاء على فيروس الحمى النزيفية التي تفشت في مناطق مختلفة من البلد قبل أشهر، قائلاً لـ"العربي الجديد": "لم تعد هناك أي إصابات بالحمى داخل المستشفيات والمراكز الصحية بموريتانيا".
وقال المصدر الذي رفض ذكر اسمه إن الجهات الصحية اقتنت جهازاً متطوراً للكشف عن الفيروسات المسببة للحمى النزيفية، بعد أن أكملت مناقصة لشراء الجهاز الأول من نوعه في البلاد مؤخراً، وهو ما يساهم في التشخيص المبكر للحالات المصابة بالمرض ووقف انتشاره.
وكان وزير الصحة أحمد ولد جلفون قد أكد أن الجهاز المسمى (BCR)، والمختص بكشف فيروسات الحمى النزيفية، سيمكن موريتانيا من الاستغناء عن الحاجة الدائمة إلى اللجوء إلى مختبرات دولة السنغال المجاورة، لتأكيد الإصابة بالأمراض الفيروسية.