لعله كان واهماً مَن اعتقد أن سكوت قادة المعارضة طوال ستة عشر شهراً الماضية هو دليلُ رضاً عن السياسات والممارسات العمومية أو هو صك قبول موقَّع على بياض لسلطة الحكم القائمة. فهؤلاء القادة المعارضون الذين دخلوا السجون وذاقوا صنوف الظلم والتضييق والتزوير والاستهداف طوال عقود متتالية، والذين وقفوا في وجه رؤساء مستبدين طالما استخدموا آلة الدولة ضد خصومهم بلا رأفة ولا رحمة.. لا يمكن شراء صمتهم بسهولة أو بأي ثمن.. لكنهم أرادوا للبلاد أن تلتقط أنفاسَها بعد عقود من مناخات التوتر والشد والجذب والمواجهة، وأن يساهموا في تهدئة الحياة السياسية وتطبيعها، كي يتيحوا بذلك للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني فرصة تنفيذ ولو الربع فقط مما وعد به خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وقد منحوه بذلك فرصةً لم تتوفر لمَن سبقه من الرؤساء الآخرين؛ فهل يستغل هذه الأجواء الإيجابية ويعلنها حرباً حقيقية ضد الفساد والمفسدين، العدو الأول للتنمية والتقدم والتطور، ويبدأ في استعادة عقود من التنمية الضائعة والفرص المهْدَرة، أم يكرر سيرة أسلافه من الرؤساء العسكريين المتعاقبين الذين انشغلوا بإدارة صراعات السلطة مع رفاقهم، وظلوا في شغل شاغلين عن ساحات البناء والتنمية والتطوير؟
وقد يسأل سائل: وما الذي يستطيع فعله الآن هؤلاء الذين كانت نتائجهم ضعيفةً للغاية في انتخابات الرئاسة السابقة؟
والجواب هو أن مثل تلك النتائج ليست مقياساً دقيقاً لقوة أي مكون سياسي في بلد تشرف فيه الإدارة المحلية على الانتخابات ويقوم فيه زعماء العشائر بملء صناديق الاقتراع لصالح مرشح السلطة. وهذا مع العلم أن هذه السلطة رغم كل ما بذلته من جهود وما استخدمته من وسائل لم تستطع في الانتخابات الأخيرة أن تتجاوز بمرشحها عتَبةَ الخمسين في المئة إلا بالقليل جداً، وهو مؤشر على وجود وعي متزايد في المجتمع بضرورة القطع مع البدعة الدخيلة على النظام الديمقراطي، وهي «مرشح الدولة» الذي لا مجال لمحاسبته أو معاقبته انتخابياً طالما أن «الدولة» تحميه وتضمن فوزه من خلال الصناديق المحشية والمحاضر المزورة!
إن أصغر حزب سياسي بإمكانه -لو أراد- تعكير المناخ العام وإحداث الشوشرة والبلبلة على أي رئيس، ومن ثم إرباك خططه لإدارة السلطة وتسيير صراعاتها الداخلية، لكن هذا ما يبدو أن أحزاب المعارضة أرادت تَجنُّبَه رغم التذمر الملحوظ داخل قواعدها، وهو تذمر نقرؤه هنا في وسائل التواصل الاجتماعي، مِن طول الصمت الذي أصبح مريباً لدى البعض وموضع تفسيرات مختلفة يذهب الخيال ببعضها للحديث عن صفقات نفعية شخصية هي أبعد ما تكون عن المعقولية.
وها قد جاء بيان الأحزاب الأربعة اليوم ليؤكد أن صمت المعارضة ليس أبدياً، وأنه لا منجاة للرئيس الغزواني من الانتقادات السياسية ومن المحاسبة الانتخابية إلا بإنجازات تبدأ بوضع حد للفساد والمحسوبية وما يحدثانه من هدر ونزيف متواصلين، وبإنهاء البؤس الاجتماعي المتزايد اتساعاً وتعمقاً، وتحريك عجلة التنمية الاقتصادية المتعطلة بسبب تضافر الفساد والفشل وغياب الرؤى والأفكار الاستراتيجية. ومن هنا فقط تكون البداية الصحيحة للانتقال الضروري بالبلاد، في أجواء هادئة ومواتية جداً، نحو آفاق جديدة يكللها الجد والوضوح والتفاؤل والتفاهم.
من صفحة الكاتب محمد المنى