تصلني ـ من حين لآخر ـ ملاحظات وتعليقات من بعض القراء والأصدقاء تدور في مجملها حول علاقتي بالنظام القائم، ومن بين القراء والمتابعين من أصبح يعتبرني ناطقا رسميا باسم النظام.
إن الرد على هذه الملاحظات والتعليقات يستدعي عرض ثلاث خلاصات توصلتُ إليها بعد طول تأمل في مجريات الأحداث خلال السنتين الأخيرتين، وهذه الخلاصات الثلاث هي التي تحدد اتجاه وطبيعة موقفي من النظام القائم.
الخلاصة الأولى : إن أي متابع فطن لما جرى من أحداث سياسية في السنة الأخيرة من حكم الرئيس السابق، ولما جرى من أحداث بعد ذلك في السنة الأولى من حكم الرئيس الحالي سيدرك دون عناء أن أهم استنتاج يمكن الخروج به هو أن الرئيس الحالي دون غيره، هو من كان بإمكانه أن يحقق تناوبا آمنا على السلطة، وذلك نظرا لبعض الصفات الشخصية التي يتمتع بها ونظرا كذلك لطبيعة علاقته الخاصة بالرئيس السابق. ومن المعلوم بداهة لكل من يُتابع ما يجري في بعض دول المنطقة من فتن وعدم استقرار أن التناوب الآمن على السلطة قد أصبح في حد ذاته وفي زماننا هذا مكسبا شعبيا ثمينا، بل وثمينا جدا.
يمكنني أن أجزم هنا، بناءً على قراءات وتحليلات أراها موضوعية، أنه لو قُدِّر لشخص آخر غير الرئيس الحالي أن يتولى السلطة من بعد الرئيس السابق، لكنا اليوم قد عدنا إلى المربع الأول، وفي أحسن الأحوال، لكنا نعيش أزمة سياسية بالغة التعقيد.
الخلاصة الثانية: إن بلدنا كغيره من البلدان المشابهة بحاجة إلى رئيس قادر على أن يتحول به من ديمقراطية تتحكم فيها المؤسسة العسكرية إلى ديمقراطية تتحكم فيها القوى المدنية. وفي اعتقادي الشخصي فإن الرئيس الحالي هو الأكثر تأهيلا لقيادة هذه المرحلة التي تحتاج إلى تطبيع العلاقة بين المؤسسة العسكرية والقوى المدنية من أجل انتقال آمن من الديمقراطية التي تتحكم فيها المؤسسة العسكرية إلى الديمقراطية التي تتحكم فيها القوى المدنية. إننا في هذه البلاد لسنا بحاجة إلى تكرار تجربة مشابهة لما حدث في مصر في عهد الراحل محمد مرسي، أو لما حدث هنا في عهد الرئيس الراحل سيدي ولد الشيخ عبد الله.
الخلاصة الثالثة : إن المتأمل في حال المعارضة اليوم، وكذلك في حال الأغلبية سيدرك دون مشقة أن البديل غير جاهز في الوقت الحالي ، وأنه في حالة فشل النظام القائم لا قدر الله، فإن البلاد ستدخل في نفق مظلم مفتوح على كل الاحتمالات السيئة.
بعد استحضار هذه الخلاصات الثلاث تظهر مدى الحاجة إلى اتخاذ موقف غير متسرع من النظام القائم، موقف نابع من رؤية إستراتيجية تستحضر الماضي وتتطلع إلى مستقبل "متحكم فيه". ومن هنا يكون الموقف الأسلم بالنسبة لشخص مثلي مهتم بالشأن العام، وليست لديه انتماءات حزبية تتحكم في خياراته ومواقفه السياسية، هو ذلك الموقف القائم على المرتكزات التالية:
1 ـ دعم وتثمين أي خطوة إصلاحية يقوم بها النظام القائم، على أن لا يكون ذلك الدعم بالأساليب المبتذلة التي تعودنا عليها عند الكثير من داعمي الأنظمة الحاكمة في هذه البلاد؛
2 ـ تبيان أماكن الخلل وتوجيه النقد كلما كانت هناك ضرورة لذلك، ولكن هذا النقد سيبقى محكوما بضوابط محددة، فهو لا يهدف إلى تعرية النظام القائم ولا إلى إظهاره بمظهر النظام العاجز، فالخلاصات الثلاث التي تقدمتُ بها في بداية هذا المقال تمنعني من ممارسة أي نقد من ذلك النوع. إن النقد الذي أتبناه في هذه الفترة من تاريخ البلد هو ذلك النقد الهادف فقط إلى لفت الانتباه إلى أماكن الخلل والتقصير من أجل تصحيحها ومعالجتها؛
3 ـ الاستعداد التام للوقوف ضد "الجناح المفسد" في النظام، مع الاستعداد التام لدعم الجناح الإصلاحي في هذا النظام، ولكل نظام جناحه إصلاحي، ولكن المشكلة التي تتكرر دائما هي أن الجناح الإصلاحي يكون في أغلب الأحيان أقل حيوية وأقل قدرة على التنسيق، على العكس من "الجناح المفسد" الذي يمتلك في أغلب الأحيان روح المبادرة، مع خبرة وحيوية، وقدرة كبيرة على التنسيق والعمل المنظم.
تلكم هي المرتكزات الأساسية التي يقوم عليها موقفي الحالي، وأرجو أن تكون البوصلة التي تحدد اتجاه هذا الموقف هي بوصلة المصلحة العامة، لا المصلحة الشخصية، وأرجو أن أكون ممن يضع المصلحة العامة لموريتانيا فوق مصالحه الخاصة.
أما بالنسبة لأولئك الذين يكررون القول دائما بأن هذا التغير الحاصل في الموقف، إنما هو نتيجة للبحث عن "وظيفة ما ". لهؤلاء أقدم هذه المعلومة : لم يتركني فخامة الرئيس ألجأ لهذا النوع من الكتابة، فقد استدعاني في أسبوعه الأول في القصر الرئاسي وعرض علي وظائف سامية، وأنا هو من اعتذر عن تلك الوظائف بحجة أنها تفرض على من يمارسها التوقف عن الكتابة في الشأن العام والانسحاب من العمل الجمعوي. لا يعتبر هذا الكلام اعتذارا عن العمل مع النظام القائم، فأنا أعمل معه حاليا ويشرفني ذلك، ولكن في مهام لا تتعارض مع الحق في التعبير عن الرأي، ولا تمنع من ممارسة العمل الجمعوي.
حفظ الله موريتانيا...
محمد الأمين ولد الفاضل
[email protected]