تمهيد .. نهدف من خلال هذا المقال إلى المساهمة في التفكير الجاري بهدف القيام بإقلاع زراعي. وذلك اعتمادا على اقتراحات تريد أن يكون الإقلاع فعالا وخصوصا مستداما. قبل الخوض في صلب هذه الاقتراحات، فإنه من الصواب التنويه إلى عاملين مهمين؛ أولهما أن التنمية الزراعية والتنمية الريفية (القروية) بشكل أشمل، ليست مسألة مناسباتية أو ظرفية تطفو على السطح مع ظهور أزمات توجب ذلك (أزمة كورونا، مشاكل المعابر…)، بل هي قبل كل شيء خيار تنموي واقتصادي مدروس، يتم اختياره على أسس علمية متينة ورصينة، ووفق رؤية استشرافية عميقة تحتاج وقتا، ودراسة وتنفيذا. العامل الثاني يتمثل في كون العالم الريفي أو القروي المرتبط أساسا بأي نهضة زراعية لا يعتمد على الفلاحة (الزراعة والتنمية الحيوانية) وحدها؛ بل يجب التفكير فيه بشكل شمولي، أخذا بعين الاعتبار العوامل التي يمكن أن تساهم بالنهوض به وفي القيام بتنمية شاملة لهذا العالم المحوري في اقتصاد بلدنا. نشيد في هذا المضمار بتسمية الوزارة الوصية وما تحمل في طياتها -على الأقل نظريا- من دراية ومعرفة رسمية بهذا الواقع.
-1-
حسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، فإن 62% من سكان البلاد يعتمدون بشكل رئيسي على الأنشطة الريفية؛ يساهم القطاع الريفي بنسبة 17% من الناتج المحلي الخام؛ ويوظف حوالي 21 % من اليد العاملة النشطة. وعلى مساحة صالحة للزراعة تقدر ب 502.000 هكتارا، تعتمد 44%منها على مياه الأمطار؛ يساهم القطاع الزراعي في تغطية 30% من احتياجات البلاد من الحبوب و100% من احتياجاتها من اللحوم الحمراء و30% من احتياجات الحليب. يمكن الملاحظة أن الإنتاج يبقى ضعيفا مقارنة بالحاجيات. تنقسم البلاد إلى أربعة نظم بيئية مختلفة: 1) المنطقة الجافة، يتشكل نظام الإنتاج فيها أساسا من الواحات (التمور)، الحبوب، الزراعات العلفية، وبعض الخضروات والفواكه. تشكل هذه مساحتها 2.4% من المساحة الإجمالية الصالحة للزراعة.2) المنطقة الساحلية في الجنوب الشرقي؛ التي يتناوب فيها فصل الشتاء الجاف مع فصل الصيف الممطر. نظام الإنتاج فيها زراعي رعوي. وحسب التساقطات المطرية، قد تصل مساحتها 37% من المساحة الإجمالية الصالحة للزراعة. 3) منطقة حوض نهر السينغال؛ تقدر مساحتها ب 135000 هكتارا، وتعتمد على الزراعة المروية إضافة إلى الزراعات المطرية. في هذه المناطق، يتم إنتاج الأرز، والحبوب، والخضروات والفواكه. 4)وأخيرا، المنطقة الساحلية التي تمتد على شريط بعرض 50 كلم، تقدر مساحتها ب 12000هكتارا وتصلح لزراعة الخضروات والأشجار المثمرة.[1]
-2-
لعل أول ما يتبادر إلى ذهن المهتم بأي إقلاع (أو نهضة أو يقظة لا مشاحة في المصطلحات مادام المقصد واحد) زراعي، هي عوامل الإنتاج الضرورية للقيام بأي نشاط زراعي. سنتوقف هنا عند الأكثر أهمية. أول هذه العوامل الأرض. وهنا يلزم القيام بتخطيط دقيق، يُحيِّنُ المعتمد أصلا ويحدد بشكل قانوني آليات الحصول على سند الملكية الأرضية دون ظلم أو حيف لأي أحد، أو مجموعة. العامل الثاني الذي يجب كذلك التذكير به هو الماء؛ إذ لا إقلاع مادام الاعتماد الزراعي في أغلب الأوقات على الأمطار، في وقت تعرف الكرة الأرضية تغيرات مناخية كبيرة ومؤثرة. بل يجب القيام بإنشاء السدود بكل أنواعها بعد دراسة الجدوائية الجيوتقنية والاقتصادية اللازمة. فمثلا عند هطول الأمطار يمكن القيام بإنشاء حواجز للمياه (سدود صغيرة) يمكن تحويل الماء منها للسقي، كما يمكن استخدامها في غمر الفرشة المائية. وبالمناسبة، هذه الإجراء ات يمكن ألا تقتصر على الدولة وحدها بل يمكن ـ اعتمادا على المواكبة والتحسيس ـ القيام بذلك عن طريق التنظيمات المهنية الزراعية ومؤسسات المجتمع المدني الناشطة في الميدان. العامل الأخير والذي لا يقل أهمية هو الولوج إلى التمويلات، ونظرا لكون غالبية الزراعة الموريتانية صغيرة، فإن التفكير في دعم الاستثمار يعتبر أنجع الوسائل لمواكبة الإقلاع من خلال التحفيزات المالية مع تحديد سقف لكل مكونة (الطاقة، الآبار، تقنيات الري، المدخلات، السياج .... إلخ). يمكن بعد ذلك الاعتماد على القرض بالنسبة للمزارع الكبيرة. يمكن الاستئناس بتجارب الدول الشقيقية في هذا المضمار وخصوصا المغرب الرائد في الميدان الفلاحي.
3- -
غير أن الاقلاع لا يتم ـ كما سبق في التمهيد ـ إلا على أساس علمي رصين، فإن ثلاثة محاور تعتبر ضرورية في هذا المجال؛ أولها التكوين: فللقيام بهذا الاقلاع، تحتاج موريتانيا إلى الاختصاصيين في شتى المجالات المرتبطة بالقطاع الزراعي. فعلى سبيل المثال ـ لا الحصر ـ، لا نمتلك حتى الآن مدارس لتكوين المهندسين الزراعيين، بل كل ما نمتلكه هي مدارس لتكوين التقنيين (المعهد التكنولوجي بروصو ومدرسة كيهيدي للإرشاد الزراعي). ثاني المحاور يتعمد على البحث، فالميدان الزراعي يعتمد على البحث والتجربة المستمرة لتطوير البذور، وإيجاد أدوية للأمراض والآفات، لتطوير السلالات، للابتكار وتطوير آليات المواكبة ولإرشاد للمزارعين........ ومن هنا يبرز المحور الثالث، المتمثل في عملية تحويل المعارف المتحصل عليها بصفة علمية إلى جمهور المزارعين. يتم ذلك عن طريق جرائد لنقل المعلومات، لكن بالخصوص عن طريق الاختصاصيين في الإرشاد الزراعي الذي هو عملية معقدة تجمع التقني، والاجتماعي والتربوي. يشكل التكوين والبحث ونقل المعارف الدعامات اللازمة لأي إقلاع زراعي رصين.
-4-
وزيادة على هذا كله لا يسعنا إلا أن ننوه بضرورة التفكير في الجانب الاقتصادي الذي يشكل لب العملية التنموية الزراعية وأساس نجاحها واستمراريتها. فالإقلاع يجب أن يجد حلولا دائمة لتسويق المنتجات. فالدولة ليست من يشتري البضائع، بل نظام السوق من يحدد ذلك طبقا لقوانين العرض والطلب.
وختاما، فإن الأكثر رصانة ـ في وجهة نظرنا ـ القيام بإقلاع ريفي (قروي)، نظرا لتشابك القطاعات التي تشكل هذا المجال الجغرافي المهم لبلادنا؛ والذي يساهم بشكل فاعل وفعال في الناتج المحلي للبلد. يجب إذن التفكير في القطاع الزراعي، في البيطرة، في السياحة، في الصناعة التقليدية، في إسهام المهاجرين بالخارج (التحويلات النقدية) ..... إلخ. اختصارا، في كل العوامل التي تساهم بشكل مباشر وغير مباشر في تنمية المجال القروي بشكل عام. يبقي عامل التنسيق بين مختلف المصالح المعنية بهذا المجال وكذا عامل التخطيط الشمولي التشاركي أهم التحديات التي يجب رفعها.
الزين الزين الطالب
مهندس زراعي متخصص في التنمية وباحث في علم الاجتماع.
------------------------------------
يمكن كذلك الرجوع إلى الدراسة التالية