ليس من المبالغة القول إن نظام التعليم فى بلدنا يعيش حالة كارثية. ولا أدل على ذلك من أدائه الضعيف للغاية الذى يتجلى فى مستويات مفرطة من التسرب المدرسي، سواء في المستوى الابتدائي أوالثانوي (حيث أن التلاميذ من جيل معين يصل منهم بالكاد 30 بالمائة إلى السنة النهائية من التعليم الثانوي حسب رقم متداول، و بالكاد يجتاز 10 في المائة من المترشحين امتحان البكالوريا، أي أن لدينا بالمحصلة معدل 3٪ فقط من أبناء الجيل المعني يحصلون في النهاية على شهادة البكالوريا).
أما السياسات فظلت تركز على أهداف كمية ل"تمدرس" الفئات العمرية، وذلك على حساب جودة التعليم.
وتبدو المدرسة الموريتانية شبه عاجزة، حيث ينوء بكاهلها حمل مهمتها الأساسية المتمثلة فى تجسيد مدرسة جمهورية حقيقية تُكون وتربى جميع الأطفال بطريقة موحدة، من خلال تربيتهم على القيم وتزويدهم بالمعارف والمهارات اللازمة لتنشئة ذلك الانسان الناضج، الواعى والمفعم بالمسؤولية والحس المدني. و بالتالى، يصعب عليها تأدية رسالتها المفترضة : أن تُشكل بوتقة وطنية من شأنها أن تصهر الجميع تكريسا للمواطنة والمساواة والإخاء وتحقيقا للانتماء الوطني.
ومع ذلك، فإن ذكاء شبابنا وتعطشهم للمعرفة بالإضافة إلى الوعي المتزايد لدى الأسر بأهمية تعليم أطفالها، بوصف ذلك السبيل الوحيد للحد من الفروق الاجتماعية القوية وفي النهاية للقضاء عليها، لَمما يحمل تباشير مدرسة جديدة يطالب بها ويصبو إليها جميع الموريتانيين.
ومن هذا المنظور، تتعين تعبئة وطنية عاجلة لإنقاذ المدرسة العمومية، على أن يبدأ ذلك بتشخيص معمق- لمدة أقصاها ثلاثة أشهر- من أجل تقييم دقيق ومفصل (يتجاوز التشخيص العام الذى هو بديهي)، ويشمل :
- تقييم الوضعية الحالية للوسائل من بُنى تحتية وأدوات التدريس وموارد بشرية
- تحليل مكامن الخلل : إداريا، بشريا، ماديا وتربويا.
- تقييم مهارات وقدرات المدرسين، في إطار إعادة تقييم شاملة للمستويات.
ومن ثَم ستتمحور التعبئة المطلوبة، التي ينبغى أن تتوحد من أجلها جهود كل الفاعلين المعنيين، حول المبادرات العشر التالية :
أولا - إعلاء الحالة الاستعجالية للمدرسة العمومية إلى مرتبة "قضية الطوارئ الوطنية 2020-2030"، والمضي قدماً فى إنشاء صندوق لتمويل البنية التحتية ووسائل التعليم، يُشرف عليه مجلس رقابة مستقل ومعترف بنزاهته. على أن يعتمد هذا الصندوق على مصادر التمويل التالية :
أ- حملة وطنية واسعة لجمع التبرعات
ب- مساهمة سنوية من الصندوق الوطني للهيدروكربونات - FNRH (ولتكن نسبة 15 ٪ من المداخيل السنوية ل FNRH ، ابتداء من سنة 2022 لدى بدء تصدير الغاز الطبيعي المسال)، وذلك خارج الميزانية المعتادة للدولة ، باعتبار أن FNRH يلعب دور "صندوق للأجيال القادمة"...
ج- كما يمكن أيضًا النظر في إمكانية فرض ضريبة استثنائية على الشركات الكبيرة إذا لزم الأمر (على أن تكون ضريبة مؤقتة للفترة 2020-2022، أي ريثما يبدأ التصدير الفعلي للغاز)
ثانيا- تعزيز القوى العاملة في مجال التعليم بمعاونين جدد، من خلال "خدمة مدنية" إلزامية للخريجين (من خلال تجنيد الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 22 و 28 عامًا) وذلك من عام 2020 إلى 2030 :
أ- تتم تأدية هذه "الخدمة المدنية" لمدة عام واحد (بما في ذلك فترة 3 أشهر مخصصة لتكوين مُركز وسريع على شكل دورة تدريبية مكثفة يشرف عليها خبراء من التعليم (على أن يتم تأطير وتوفير لوجستية المجندين من قبل الجيش الوطني). ثم يتم بعد ذلك وضع الشباب المُكونين تحت تصرف قطاع التعليم لتكليفهم بالخدمة إما في الابتدائية أو في الاعدادية، حسب اختصاص كل شاب مجند ومهاراته الشخصية وتقييمه عند نهاية التكوين.
ب- على أن يُخصص الدعم المالي اللازم لحملة "الخدمة المدنية" هذه، بما في ذلك الحفاظ على رواتب الشباب الذين تتم الاستعانة بهم (سواء من الموظفين العموميين أو الخصوصيين) وكذلك تخصيص تعويضات للاخرين ممن كانوا يبحثون عن عمل.
ثالثا- إصلاح البرامج : إن الحاجة أيضا ملحة لإصلاح المناهج ولإعادة النظر فى المقاربات التربوية في ضوء أهداف التعليم المرسومة لكل مستوى. ويجب، على وجه الخصوص، وضع حد للانفصام الذى يعرفه اليوم نظام التعليم حسب الأعراق والفئات والمضي في توحيد المدرسة.
وستتعين، في نفس الوقت، مراجعة شاملة لأساليب تكوين المدرسين أنفسهم، إن نحن أردنا إنهاء وضعية الارتجال وتمكين المعلمين من التمتع فعليا بالكفاءة والمهارات اللازمة لتأدية مهامهم على أحسن وجه، بما يتلاءم مع الأهداف الوطنية في تكوين الأجيال وتوفير احتياجات البلاد من الموارد البشرية ذات الجودة، والقادرة على اقتحام سوق التشغيل. وفي هذا السياق :
- قد نحتاج الاستعانة بالخبرة الأجنبية، واكتتاب مستشارين دوليين أكفاء ومعترف بهم (3 خبراء على الأقل)، من أجل دعم الوزارات المسؤولة عن التعليم، في التخطيط والتطوير والاشراف على الإصلاحات المطلوبة، بما يتماشى مع سياسات التعليم والأهداف المرسومة على المستوى الوطني.
- كما ينبغى اعتماد بعض الابتكارات التربوية، بشكل تدريجي. وللقيام بذلك، سيتعين على الخبرة الموريتانية (المدعومة، إن لزم الأمر، من قبل متخصصين أجانب) أن تبدأ أولا بالتفكير في تطور المناهج وأساليب التدريس. وهكذا، بعد تحليل الابتكارات الواعدة في مجال التدريس وتجربتها على نطاق محدود، يمكن اعتماد أساليب حديثة منتقاة تحت رعاية الخبراء، مثل "منهجية سنغافورة" في الرياضيات. ولسد الفجوة الموجودة أمامنا، سيكون لزاما علينا أن نعمل تدريجيا على تعميم استخدام الوسائل الرقمية.
رابعا- تعزيز قدرات الهيئات التربوية الكبرى : ونعنى مؤسسات مثل المدرسة العليا للتعليم والمعهد التربوي الوطني ومعاهد تكوين المعلمين. حيث ينبغى إجراء حملة لتقييم قدراتها، تليها إعادة تنظيم مدروسة مع إمدادها في نفس الوقت بموارد جديدة، بشرية وتربوية. كما أن الأمر قد يتطلب اكتتاب أساتذة ومفتشين إضافيين من الخارج، لفترة انتقالية. ويمكن أيضًا فتح المجال لإسهام أساتذة الجامعة في هذا الجهد (وفقًا لاختصاصاتهم وقدراتهم الشخصية).
خامسا- تثمين وظيفة المدرس ورعايته ليتبوأ المكانة اللائقة : وينبغى فى هذا الإطار تخصيص الوسائل الضرورية لتحسين الظروف المادية لأعضاء هيئة التدريس لنمكنهم من إنجاز مهمتهم في ظروف أفضل، ولا سيما بتحسين الرواتب والعلاوات المستحقة واعتماد نظام تحفيز فعال يشمل تخصيص مكافآت لذوى الأداء العالى من المدرسين. غير أن هذه السياسة تتطلب أيضا فرزا جادا للمدرسين وتقوية لبرامج التكوين المهني، والذي يجدُر تعزيزه بتنظيم دورات تدريب دورية من أجل التحسين المستمر لمهارات المعلمين، مع تقوية الإحساس بالمسؤولية، وروح الشغف والتحلى بأخلاقيات المهنة.
سادسا- و يتحتم، في الوقت نفسه، محاربة ظاهرة تغيب المدرسين عن عملهم، وذلك بتعزيز الرقابة وفرض عقوبات رادعة للقضاء على هذه الآفة. وسيتطلب ذلك تفعيلا ملموسا لدور الجهات الرقابية، مع إرادة جادة لوضع حد لحالة اللامبالاة واستعادة مناخ حقيقي من النظام والجدية في المدارس. وسيكون علينا أيضا إشراك جمعيات آباء التلاميذ وإفساح المجال لهم للعب دور فعال، بما في ذلك الاستفادة من يقظتهم إزاء كل ما قد يقع في المدارس من خلل أو تقصير أو نواقص.
سابعا - ردم الفجوة المتراكمة فيما يخص البنية التحتية المدرسية (من إعادة تأهيل، أو صيانة، أو بناء منشئات جديدة) وحل مشكلة الازدحام والاكتظاظ في الفصول الدراسية.
وسيكون ضروريا، على وجه الخصوص، أن يتم على الفور حظر اكتظاظ الفصول بما يزيد على 55 تلميذًا في المدارس الابتدائية (وبالتالي إلزامية إنشاء الفصول الضرورية لاحترام هذا الحد الأقصى). على أن نستهدف، على المدى المنظور، معدلا لا يتجاوز 35 تلميذًا في المتوسط سواء للمدارس الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية.
ثامنا - تحقيق تكامل فعلي بين المدارس الخاصة والمدارس العامة بدلاً من التغاضى الحاصل عما يجرى من "منافسة غير شريفة" يقع ضحيتها التعليم العمومي، حيث التشغيل الغير قانوني للمدرسين العموميين من قبل المؤسسات الخاصة، ما يُفاقم ظاهرة الإهمال وتغيب الأساتذة التي تعانيها المدرسة العمومية.
وبذلك فقط يمكن التسامح مع بقاء نسبة من "التعليم الخاص" جنبا إلى جنب مع "التعليم العمومي"، لكن بعد إنهاء حالة الفوضى فى القطاع وإرساء جو من التكامل والتنافس الشريف، وفرض الالتزام بالبرامج والاحترام الدقيق لقواعد العمل ومعايير الجودة.
تاسعا- تعميم النفاذ إلى التعليم على أوسع نطاق
أ- من خلال إلغاء مسابقة الدخول للإعدادية فى مدى منظور، وتقنين إلزامية التمدرس الفعلي للأطفال لغاية سن 16 سنة.
ب- إنشاء منحة مدرسية للبنات من الفئات المتواضعة، اللائى تتراوح أعمارهن بين 14 و 18 عامًا. وسيعزز هذا الإجراء نسبة ومستوى تعليم الفتيات، كما سيُساعد في نفس الوقت على الحد من ظاهرة الزواج المبكر.
عاشرا- محاربة سوء التغذية لدى تلاميذ المدارس : من أجل ضمان ظروف تعليمية أفضل، سيكون علينا إطلاق برنامج للتغذية المدرسية، يعزز صحة الأطفال ويساعد على تقوية تركيزهم خلال الدرس، وذلك عن طريق توزيع وجبة معممة على أطفال المدارس الابتدائية... على أن تتكون هذه الوجبة من أحد مشتقات الألبان وغذاء يحتوى الألياف والفيتامينات، مع تفضيل للأطعمة المُنتجة محليا.