عندما يتولى المفسدون من أصحابُ السوابق التسييرية و القيادات الرجعية مؤسسات الرقابة المالية و المخططات التنموية،
و عندما يتولى الشؤون الاجتماعية و مسألة حقوق الانسان أنجالُ المرجعيات الارستقراطية القبلية و العشائرية و ورثة النظرة الاستعلائية،
و عندما يضرب أصحاب الشهادات الجامعية العالية صفحا عن العطاء و تبليغ رسالة العلم و المعرفة مقابل مغازلة الوظائف الوثيرة،
و عندما تنتزع المرأة عمامة الرجل و تركبها إلى النزوات و لتحجب بها تبييض الأموال و نهبها و تحويل خردة العالم من السيارات و المساحيق إلى قلب نواكشوط،
و عندما يصفع حديثو السن الأشايب و يتطاولون عليهم بالعمارات الشاهقة،
و عندما ترى جحافل الشعراء يبيعون رديئ القريض و يتجولون باسمه المبتور من جذعه النبيل، على حساب الخزينة العامة، حول مرابد العالم المترفة لحضور باهت...
فاعلم أن حكم "السيبة" مازال رابضا في النفوس، ممسكا بزمام الأمور، و أن المسار إلى دولة القانون و المواطنة ما زال متعثرا، ثم اعلم أن الإرادة و الهمة ما زالتا تحت حصار "السيبة" المشؤومة.
تقييم التعيينات بمنطق "السيبة"
عند كل تعيينات يسأل الكل عن قبيلة و شريحة الذين يتم تعيينهم جددا في مناصب هامة و وظائف سامية، و لا أحد يسأل عن مؤهلاتهم العلميةو سيرهم الذاتية و تجاربهم المهنية و علاقتهم بالوظيفة الجديدة.. و بعد التعيين و هدوء عواصف السؤال يقولون ذاك "الحرطاني" من الفلانيين متوازن في أرائه السياسية و عليه شبه إجماع، و ذاك من القبيلة كذا الوازنة بأموال رجال أعمالها أو علمائها أو مكانتها التقليدية و يتمتع بوسطية فيها لا غبار عليها، و ذاك الثالث من الجهة كذا تعويضا لخروج فلان من ذات الجهة أو ذات الشريحة أو ذات الإثنية من الأثنيات الثلاثة للحفاظ على توازن محاصصي... و عند هذا الحد و بهذا الضيق في التقييم و الاختيار يقف البلد عاجزا عن ولوج التحولات الكبرى إلى دولة الكفاءات و المسؤولية و الوطنية و الرغبة الجامحة في البناء و العدالة و النساواة.
الخسة أولى من الفضيلة
على خلفية القبلية الدفينة في النفوس يعادي البعض البعض في الحلبة السياسية ذات "المائة حزب" هلامي فيكيل له من الشتائم ما تنوء به الجبال، و يوجه اليه من الاتهامات ما يتجاوز حد المنطق، فيتلهى الكثيرون بالبذاءات المدونة نصوصا قدحية على وسائط شبكات التواصل و واجهات المواقع الالكترونية. و موزونا حسانيا يحمل كل غرائز الحقد و استصغار الشأن و نكئ جروح الماضي الطبقي العشائري التفاضلي فيسكر المتلقون بسلاطات اللسان و يتبادلون التعاليق في جمود الزمن عن الحراك و الأداء الإيجابي لفائدة الوطن. تفضح الأنساب و تعرى خسائس كانت في الستر و تستحدث أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، و لا يحمد تميز أو يشاد بعبقرية. و المشهد حي مع الحكومة الجديدة بدء بوزيرها الأول و اختتاما بالداخلين الجدد من نوافذ الرحمن مرورا بالباقين من سفر المهندس على أنغام في أشد التعارض في المنظومة الاجتماعية السيباتية العصية على التغيير.
قتل المواهب في المهد
في بلد التنافضات الكبرى و الشذوذ المقنع و المادية الوحشية بكل أساليب الإحتيال و البعد عن الجهد البناء تموت عند بزوغ كل شمس مواهب طرية كانت لتكون مبدعة و خلاقة في كل العلوم و الفنون، و تولد حية آكلة طاقات سلبية مدمرة لتهلك الحرث و النسل. أين الذين وهبوا أنفسهم الزكية للمسح و السينما و الكتابة الإبداعية التي تعالج كبريات القضايا و تئد بوائق التخلف و وساوس النهب و الفساد و التدمير؟ لقد هرموا و لم ينصت إليهم أو يؤخذ بأيديهم، بل أهينوا و سفهوا و أشير إليهم بالبوار و الخسة و ضعف الهمة و قصر النظر. إنه بلد يقتل المواهب و يسلب الأرواح الطاهرة نبل المقاصد و حب رفعة الوطن المتمدن العادل و المزدهر... يجري كل ذلك على خلفية ادعاء الألمعية و العبقرية و بز أمم الدنيا في كل علم و فن.. مفارقة جهنمية تعف النفوس فيها، و هي غير عفيفة، عن رفض زيفها كي تتفتح الأبواب أمام احتمال التغيير.