هي الرياح ما زالت في بلد العناد و عصيان التحول تصحب سفن قبائل معدودات في مخر عباب بحر ه السياسي الهائج و تلاعبها أمواجه في مده و جزره؛ قبائل لا يغرقها ضعف مرحلي و لا تحتل بقوتها المتأرجحة دوما جزائره. كل المفسدين ينحدرون من بطونها و تشعباتها و كذلك جميع الممسكين بزمام التسيير و عالم العمارة العقيمة الصاعدة في العاصمتين و رجال الإهمال لا الأعمال و المستوردين للكماليات و باعة ثروات البلاد بزهيد الأثمان غاسلي الأموال المشبوهة بكل التراخيص. و هي القبائل بفعل مدعي الوجاهة فيها و الريادة الثقافية و الأطر المتسمية بها التي تدير الشأن السياسوي بكل تملق و مستخدمة حبائل المكر و الصلف السيباتي بكل بجاحة. تجتمع نهارا جهارا باسم أطر القبيلة و رجال أعمالها و فقهائها و شعرائها و نسائها و شبابها و ثوزع البيانات الختامية على وسائل الإعلام المرئي و المسموع و المكتوب و كأنها عنوان قوتها و ضمان تصدرها و علامة ألمعية المنحدرين منها. و إن خارطة التعيينات و توزيع المهام السياسة لتفضح بما لا يدع مجالا للشك هذه الوضعية التي تقوض كل مسار قيام الدولة منذ نشأتها من رحم السيبة.
الصدمة في البلد المكلوم
لا صدمة في الحياة تضاهي أو تكون أشد وقعا و إيلاما على نفس المرء من صدمة انحدار قيمة بلده الحضارية و التاريخية و الأخلاقية في ذهنه، سيما بعدما كان تشبع بوهم مجد تليد و الفخر بتميزه و الزهو باستثناء ألمعية أهله و صدق تعاطيهم مع المعتقد و مواجهتهم للإستعمار... صدمة لا يقوم أبدا بعدها المصدوم سليم التفكير، معافى و مقبلا أو حتئ قادرا على العطاء. و إن المتتبع للحراك السياسي منذ استقلال البلد لا بد أن يسجل أن كل حقبة تميزت بحضور الإسفاف الأخلاقي كعامل للتموقع في الحكومات و حضور في مسألة تسيير خيرات البلد البكر تسييرا فاسدا و استهتارا بالبلد. و مع السياسة فقد تلبس هذا التعاطي الشاذ بكل عوامل و أدوات و عقلية السيبة. و ليس ما نراه اليوم من تنكر للأخلاق و جرأة على المواثيق الاجتماعية و تلاعب بمحظورات الدين و تسلح بأمراض القلوب و تهافت على المصلحة الذاتية الضيقة إلا تأكيدا على هذه الحقيقة الصادمة و سقوط سور المجد الزائف و الإمعان في تقزيم بلد ولد مشوها و ناقص هرمونات النمو.
السياسة محنة و نقمة
بحثت الليل البارحة عن علبة لبن محلي الصنع لرضيع عندنا؛ لبن في صنعه قول بعدم خلوه من ألبان مجففة مستورة لمضاعفة قدر المحلوب أصلا من الأبقار، لبن يشاع أيضا أن صناعته بخبرة موريتانية صرفة - و ما الأمر كذلك - فلم أجد مبتغاي في كل حوانيت الحي الذي أسكنه. عزمت على أن لا أعود بدونه فولجت الحي الموالي ثم الذي والاه من أحيائنا الشعبية لكن بحثي تكلل بنفس مصير الأول و لم أجد علبة واحدة. أهو العجز عن تغطية حاجة السوق؟ أم بالأحرى هو احتكار لصالح الأحياء الراقية؟ كلا الأمرين وارد له ألف مبرر واهي و ألف مسوغ مبتور... من مشكاة السيبة. هذا عن علبة لبن في بلد تقدر ثروته الحيوانية بملايين الرؤوس من الأبقار و الأغنام و الإبل، فبماذا بفسر غياب كل الصناعات الأخرى الأولية و التحويلية فما فوق و كل الموارد موجودة؟ إن في الأمر سرا يفضحه اليوم التهافت السياسي من أجل موطئ قدم حول مائدة تسيير ثروات البلد بأيدي التخريب و الفساد .ِِ.. و إذ السياسة عندنا بعقلية السيبة محنة و نقمة.
بطش القبيلية و السياسوية و المال العام
رجال مال و نفوذ و حضور "سياسوي" من قبائل ذات أنياب قوية و مخالب حادة و سطوة مشهودة و شراسة أسطورية يسطون على أراض مملوكة لأفراد من قبائل خائرة ذات حيوية فاترة، فيسلطون عليهم الحكام و الولاة و كبار القائمين من ذوي النفوذ القبلي و "السياسوي" المعلن على "لادو" الرهيبة. موجة عارمة من ظلم القوي للمستضعف باسم النفوذ و المال و الحضور السياسوي الغاشم. فهل تظل هذه السيباتية الرعناء مسلطة على مسار الدولة تقوضه؟ و هل تظل روحها سيدة الموقف و سفورها المسلك الأوحد، أم أن وعيا بأحقية العدالة التي تحمي الضعيف من القوي و تحفظ له حقه من القوي المفتري سيظهر صداحا و يبدد ظلمات الحيف، فيفتح الباب واسعا أمام قيام دولة المواطنة التي يتمتع فيها كل ساكن بحقه لا ترهبه جسارة رجال أعمال و جاه القبائل النافذة و منطق قوتهم و سطوتهم الجائرة، ليؤدي بالمقابل ما تمليه واجباته تجاه البناء و الاستقرار و رفعة البلد.
وهم الفروسية
لماذا تغيب الخيل عن احتفالاتنا و استعراضاتنا و شوارعنا و عن معالم سياحتنا مع أن ألسنتنا لا تكف عن وصفنا بالفروسية و الشجاعة و الكبرياء التي تليق بالفرسان؟ إنها إحدى تناقضاتنا الكبرى و علما أنه في كل بلدان العالم بمن فيهم دول الجوار عربية و إفريقية تتشابك و تختلط على أرض الواقع سنابك و صهيل الخيول و أهازيج و زغاريد النساء و قامات الخيالة و أجسامهم الرياضية الرشيقة. و في طباع أهل هذه البلدان يلمس المتحري بعض فروسية في السلوك و الخطاب و النفوس. أما عندنا فالفروسية وهم تغذيه الألسن بالشعر المغتصب و تتلقفه الطباع المنكسرة فلا تعاف كذبه. الوزراء أقل فروسية من الأمناء العامين الذين هم أقل في ذلك ممن يلونهم من المستشارين و المدراء و المكلفين بمهام إلا من رحم ربك.. فروسية على الألسن و دون ذلك في السلوك و العمل. و كل قطاع بالذي فيه يرشح. و أما في السياسة فالسباق تنكره الخيول و تعافه لبغال القبلية الرخيصة و حمير التملقية التزلفية الوقحة... فهل نسوس يوما خيلا نستوردها لنصحح بها مصاب غياب الفروسية؟
بين الحقيقة و الوهم
تفاجأت و أنا أتابع أفلاما وثائقية عن الحراك التنموي في بعض الدول الافريقية التي نالت استقلاها في الستينات مثل بلادنا و هي أقل موارد و مؤهلات استراتيجية حيث أغلبها لا يملك اطلالة على أي من المحيطين الأطلسي و الهندي، و قد هالني حجم الطرق التي تشق فيها و الجسور المعلقة و الأنفاق و سكك الحديد و المصانع التحويلية و الإنشائيةو اتساع الحركة التبادلية الببنية و مع الخارج. رجعت لوهلة إلى وضع البلاد المتسم بالتخلف و الخلو من معالم المدنية و التحضر بعد سبع و خمسين عاما من الاستقلال و رغم ما تزخر به من معادن و ما حبيت به من موقع استراتيجي بإطلالة فريدة على المحيط الأطلسي و فرادة التموقع بين المغرب العربي و غرب إفريقيا و بنهر معطاء و ثروة سمكية هائلة و بترول و غاز و معادن و وفرة من المياه الجوفية و في الواحات. لكن الترفع عن العمل و التحامل على الواقع بمعاول الفساد و النهب و الغبن و العزوف عن البناء و الإنغماس إلى حد السكر في الماضوية الأسطورية و الشعر التمجيدي و التعاطي السياسي بأسوء حلله لستر عورة التخلف.
يقولون زورا
يقولون، و من هم حتى، إننا بلاد المليون شاعر و ما منا شاعر يرفع بالقوافي صوت الضمائر الحية و تحدي التردي الأدبي، و إننا بلد العلم و ما من نفحات تجديدية تلامس مضامين العصر و متطلباته، و إننا أرض أبناء المقاومين و ما منا من يحفظ لهم عهدا أو يعلم لهم تاريخا إلا ما يسيئ و يؤخذ ثمنه رخيصا. و يقولون إننا أرض الفقه و لا ظلم يرفع أو عدلا ينشر بإعمال قوة النص و جرأة حامله. و يقولون إننا أرض السياسة و قد كذبوا فمن لا يسوس الخيل و يمتطي صهواتها و يستلهم منها الفروسية لا سبيل له إلى إصلاح شأن البلد و أهله إلا أن يراوغ و يكذب و يتملق و ينافق و يلتمس كل السبل إلى الإشتراك في الفساد و النهب و تأخير البلد لتظل حبائل الماضوية السقيمة تلفه. و يقولون إن البلد زاخر بالمثقفين من الطراز العالي و الواقع أنه لا أثر على أرض الواقع لما يؤكد هذا الادعاء من مؤلفات و دراسات و نظريات و بحوث اللهم النزر القليل من قديم الاهتمامات و سقيم تناولها في قوالب حنين إلى ماض لا ارتباط له بالحاضر و ما يستدعيه فعل الاستشراف. يقولون و يقولون و لا يستمعون إلى نداء الواقع الذي يستغيث بالذين يحملون بقية من إرادة صرف الآذان عن الأباطيل و صوت أغلال التخلف.
التاريخ بأيدي المغرضين
عجيب تعاملنا المزدوج، الفاقد حرارة التقدير، مع مرحلة تاريخ البلد التي تبدأ منذ دخول الإستعمار إلى غاية استقلال الدولة المركزيةالتي لم تكن موجودة. في هذا التعامل المزدوح يقوم معدومو الموهلات إلى ذلك و قليلو الوسائل العلمية و المادية باعتماد الأرشيف الاستعماري التوثيقي الكتابي المرقون بكل جرأة مع افتعال صرف النظر عن ذكره "المصدر" و نفي مصداقيه بلا حجج مادية، و إنكار إضاءاته بمحتوياته، و كذلك بعرض صوره التي غطت مند وطئ الأرض حتى تشكلت مكتبة نادرة حفظت بلقطاتها الخالدة كل لحظات الزمن المشبعة بملامح و أوجه الساكنة و حالتهم المادية و النفسية و معالم و تضاريس البلاد كلها. و هي صور الأرشيف التي أفرجت عنها منذ أمد متاحف و معاهد و مكتبات فرنسا و معها سيل عرم من الوثائق المطبوعة و المخطوطة بأيدي المستعمر و زعامات البلد و قادته القبليين و الدينيين. مخطوطات يؤخذ ببعضها و يحرف بعضها و يتغاضى عن الآخر في لعبة لا تحتم الموضوعية و العلمية و الأمانة البحثية و لا تبصر بحقيقة مجريات الأمور و الأحداث في تلك المرحلة الهامة و الفاصلة من التاريخ الحديث. فهل يتولى أصحاب الاختصاص أمر كتابة تاريخ تلك المرحلة فيسهموا بتجرد و علمية و كفاءة في تنوير الأجيال الحاضرة و القادمة حول تاريخ يشبه تاريخ كل الأمم فيه الصفحات المظلمة إلى جانب الصفحات المشرقة.
من غريب سيئ الطباع
من غريب الطباع عندنا محاكاة بعضنا في كل شيء و لو كان تافها و لا فائدة ترجى منه. عندما يفتح أحد مجزرة في حيه ترى المجار تنافسه في اليوم الموالي، و يستوي في الأمر ميسور الحال و معدمه. حمى و هستيريا تنتاب الجميع. و كلما توجه أحد المواطنين إلى حرفة أو خدمة تداعى لها جسد القبيلة و الجوار بالمحاكاة و المضايقة.و الأمر جار حتى على السياسة. فكلما فتح باب ترشح للبلديات أو النيابيات رأيت، حتى الأغنياء و رجال الأعمال يترشحون و كأنما يخشون أن ينتزع من أمامهم لب الدنيا أو أن الأمر أهم من أعمالهم الناجحة و أموالهم الطائلة. و إن الحالة المرضية هذه التي تدعو إلى الحيرة لتبعث إلى طرح جملة من الأسئلة العالقة. فهل أن قلة عددنا هو السبب في هذا التهافت إلى المحاكاة و قطع الطريق أمام الآخر؟ أم أن للسيبة و نظامها التقسيمي الصارم و أمراض القلوب التي هي جزء من ترسانتها الأخلاقية دخلا في الأمر؟ أسئلة و أخرى قد يكون قي الإجابة عليها بعض تغيير من عادة مخلة و كابح قوي أمام دولة التقاسم الذي يضمن التكامل.
عمقنا الممزق
إن جولة داخل العمق المغربي شمالا و جنوبا، شرقا و غربا تعطيك انطباعا بأن البلد وحدة متماسكة منذ الأزل، و أخرى في الجزائر تحملك على جناح تاريخ ذي حقب شواهده أطلال حضارات عظيمة و آثار تاربخ ينبض بالحيوية و الجمال. و إن جولة في العمق المالي حيث يجري نهر النيجر الميثولوجي تجعلك تغوص، مع الشعب قال مؤرخه الكبير آمباتي باه "إن موت كل شيخ منه بمثابة مكتبة تحترق"، في تاريخ يذكر بأقدمية الشعب و رسوخ ولائه للأرض من خلال القصص الخالدة التي تجاور فيها الأسطورة المسار الصحيح لتصنع الوطن المشترك و التعلق به. في السنغال لن تترك لك السياحة التاريخية أي منفذ للإفلات من قبضة تاريخ البلد الآسر الذي لعب فيه الإسلام دورا محوريا ترك أثرا بالغا. و أما الجولة في العمق الموريتاني فإن المسافات الطويلة التي تفصل أرجاء الوطن المترامي تنغض راحتك و تشتت ذهنك و تبعبث بروح التراخ حتى تبدده. ثم إنه في كل مكان لا بد أن تصطدم بإرادة التفرد لدى أهله و انقطاع حبل الوصل مع غيره. كما أنك لن تصادف ما يشفي غليل فضولك الذي غذته من قبل سير الامتداح و ضخامة المقول. الحقيقة الصادمة أنك ستستاء من بعد أن تتفاجأ بالضمور الذي تقف عليه و قد شتت ذهن المسؤولين عن حمايته إرثا من المفترض أنه وطني فيما أنه في الواقع إرث فئوي عشائري ضيق.
وتر حساس... ألسنا نعقل؟
تعلمون أن الشعب الفلسطيني الذي نتألم لحاله أفضل منا حالا و أكثر وعيا و مدنية و أن مستوى الوعي المدني و الفكري و الفني و الثقافي لديه يجعلنا إن تمعنا فيه نخجل و نحزن و نتوارى وراء أسوار تخلفنا. هذه الحقيقة المرة يحجبها عنا عمانا الدلتوني حيث تختلط علينا ألوان و لا نرى أخرى. فسبحان الله أن يقول مثل من أبدع ما قلنا.. الرأس في الهواء و المؤخرة في الوحل. ألسنا نعقل؟
بعيدا عن أي منطق
في جيبوتي عاد نظام الجباية المقنن و الإدارة المهنية المستقيمة الصارمة و الخطط التنموية المدروسة على الدولة بالخير العميم حتى أصبحت تنعم بمحفزات الوعي المدني و انغرس في النفوس مفهوم الدولة.. و عجبا أن شوارع غزة المحاصرة و التي تشن عليها حرب مدمرة كل عام أكثر انسيابية و تنظيما من شوارع نواكشوط، و أهل غزة أكثر مدنية و احتراما لقانون السير و مسطرة التعامل، و بنايات و عمارات غزة أكثر تناسقا و تناغما و أكبر ارتفاعا في السماء، و بعض البضاعة في غزة يحمل ختم "صنع في غزة"، و الإدارة في غزة محايدة، مهنية و عادلة تخدم الجميع، و المدارس في غزة تحت الرقابة و التلاميذ فيها منسجمين مع المسطرة التربوية في النظام و المنهح التعليمي المحبك، و الجامعات و المعاهد الفنية في غزة مكتملة الإختصاصات و الأساتذة يتمتعون بلا تزوير أو مجاملة بالمستويات التي تليق بتعليم يرفع تحدبات الجهل و التخلف، و في غزة الشرطة شرطة و القانون فوق الجميع. و لولا أن غزة صامدة و أهلها مؤمنون بالوطن ما كنا لنصدق ما يعري خور عزائمنا و خمولنا و كسلنا و ضعف إيماننا ببلدنا و تركنا الحبل على الغارب للمفسدين فيه يعثيون بمنطق القبلية البائدة و العشائرية السقيمة و الشرائحية العفنة و السياسوية الانتهازية على خلفية الميل إلى الظلم و النهب و الاستعلاء و الترفع عن العمل و التغني بأمجاد قد خلت الأمم أهلها.