شكلت الحروب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة بين عامي 2008-2014، نماذج صارخة على فداحة الأخطاء الاستخبارية، والثغرات الأمنية التي وقعت فيها مختلف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بمختلف مسمياتها، لاسيما جهازي الأمن العام "الشاباك"، والاستخبارات العسكرية "أمان"، رغم قسوة الخسائر البشرية الفلسطينية، والدمار الذي أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية ضد البنى التحتية.
لعل الإخفاق الأكبر الذي وقع فيه الجيش الإسرائيلي يكمن في نجاح المقاومة الفلسطينية، وهي تخوض حرب عصابات، في "خطف دولة بأكملها" بعد سنوات عديدة من التسلح والتخفي، بحيث استفاقت "إسرائيل" لتجد المقاومة الفلسطينية أكثر تنظيما، وأكفأ قتالية وتدريبا مما كان في جولات القتال السابقة، وأسفر عن تغير الوضع مع مقاتليها في ساحة المعركة.
تخللت الحروب الإسرائيلية السابقة سلسلة من الأخطاء الأمنية الاستخبارية؛ أسهمت في بروز شروخ أولية في الإسناد الذي تمنحه القيادة السياسية العليا للجيش منذ بداية المواجهة
تخللت الحروب الإسرائيلية السابقة سلسلة من الأخطاء الأمنية الاستخبارية؛ أسهمت في بروز شروخ أولية في الإسناد الذي تمنحه القيادة السياسية العليا للجيش منذ بداية المواجهة؛ حيث عبّرت محافل سياسية ووزراء في الحكومة، في محادثات مغلقة، عن قصور الاستخبارات في جمع المعلومات عن تعاظم المقاومة الفلسطينية، والاستعدادات المكثفة التي أعدّتها للمواجهة مع "إسرائيل".
وأكدت الوقائع اليومية لتلك الحروب أن أحدا ما غفي هنا في "الحراسة"، وهي أجهزة الأمن، صحيح أن الاستخبارات حذّرت بأن حماس تستعد للمواجهة، لكنها فشلت في قدرتها على التسلل داخل الحركة لإعداد قائمة أهداف نوعية لهجوم يكسرها، وكما قال أحد الوزراء: ربما رأى رجال الاستخبارات "الغابة"، لكنهم بالتأكيد لم يلاحظوا الأشجار؛ لأنهم أعطونا الإحساس بأنهم منشغلون بمنح إنذارات باختطاف جنود فقط، ولكن طوال الوقت تعاظمت حماس إلى حجم جيش.
ثم تمثلت سلسلة من الإخفاقات الأمنية والاستخبارية بعدد من المفاجآت التي قدمتها المقاومة الفلسطينية خلال المعارك المتلاحقة في الأعوام السابقة، لتثير تساؤلات مقلقة في ضوء عدم تزود الجيش بمعلومات من قبل الاستخبارات بأن لديها صواريخ وأسلحة بهذه القدرة، مما يطرح تساؤلات: هل هناك خلل استخباري؟ أم استخفاف بالقدرات الفلسطينية، أم هي اللامبالاة؟ يبدو أن المسألة تتعلق بكل هذه الأمور مجتمعة كما قال معلق عسكري!.
وقد تكاثرت الانتقادات في ميدان المعارك، حيث أكد جنود عائدون من المعارك الضارية أن الفلسطينيين يستخدمون في إطلاق صواريخهم استراتيجية كلاسيكية في الاختفاء، وفي ظل أن "الجيش لا يمكنه أن يختبئ، فإن المقاتلين الفلسطينيين يستطيعون، ولو بحثت عنهم "إسرائيل" فلن تجدهم!.
في حين زعمت المصادر الاستخبارية الإسرائيلية إلى تصفية جزء من قيادة المقاومة الفلسطينية، لكن نهايات الحروب أثبتت عكس ذلك، فالقيادات العسكرية الميدانية ما زالت سليمة، والمخابرات الإسرائيلية حتى الآن لا تملك صورا لبعضهم، مما يدلّ على الصعوبة الاستخبارية التي تواجهها، رغم تصميم أجهزة الأمن في الوصول إليهم، خاصة القيادة العسكرية التي تملك خبرة واسعة في هذا المضمار ومدربة.
تشعبت الأخطاء الأمنية والثغرات العسكرية فيما شهدته جلسات المجلس الوزاري المصغر خلال الحروب بالخلافات الكثيرة بين رؤساء الأجهزة الأمنية وقادة الجيش وبعض الوزراء، حول مدى قدرة صمود الفلسطينيين.
العقبات التي واجهها الجيش في الجبهات العسكرية أمام المقاومة الفلسطينية، لم تكن فقط متعلقة بالناحية اللوجستية، وإنما بصورة أساسية شكلت إخفاقا استخباريا شموليا في فهم الواقع الفلسطيني
يضاف إلى فشل حقيقي وقعت فيه "إسرائيل" تمثل في الدعاية التي بثتها طوال الوقت، وهي أن المقاومة الفلسطينية تفتقد للعمق الشعبي، وهو ما تمّ دحضه عمليا، من خلال المظاهرات التي خرجت بين الحين والآخر خلال وعقب انتهاء المعارك المؤيدة للمقاومة.
لعل الإشكال العملياتي الأخطر الذي واجه الجيش الإسرائيلي خلال حروبه ضد غزة، تمثل بنجاح المنظمات المسلحة، في تحقيق ما أسماه أحدهم "الاشتباك المستمر" مع العدو، رغم الاستغناء عن اعتماد القواعد العسكرية الثابتة والظاهرة التي يمكن قصفها، فقد فاجأت المقاومة إسرائيل بعدم امتلاكها قواعد ومعسكرات ثابتة، فهي تعمل سياسيا وعسكريا بالاندماج الكامل في نسيج المجتمع الفلسطينية، مما تذرع به الجيش للقصف الوحشي للمدنيين.
ورغم الدور الكبير الذي يقدمه جهاز الـ"يومِنت" الإسرائيلي، وهي الاستخبارات البشرية القائمة على تجنيد العملاء وتفعيلهم، وكذلك الوحدة 504 خاصة عند الحدود، والوحدة 8200 التي وفرت صورة استخبارية عن المقاومة الفلسطينية، فقد أصيبت جميع هذه الوحدات بانتكاسة استخبارية بعد أن تجنب المقاتلون التحدث عبر الهواتف، ومرروا رسائلهم من خلال رُسل، وأجروا لقاءاتهم في غرف محصنة ضدّ التصنت.
هذه الشواهد وغيرها تشير بما لا يدع مجالا للشكّ أن العقبات التي واجهها الجيش في الجبهات العسكرية أمام المقاومة الفلسطينية، لم تكن فقط متعلقة بالناحية اللوجستية، وإنما بصورة أساسية شكلت إخفاقا استخباريا شموليا في فهم الواقع الفلسطيني، وبات من الواضح أن المعطيات الميدانية تشير إلى أنه لم يُجهّز نفسه لكل السيناريوهات، ويبدو أن إحدى المشاكل في هذه الحرب هي مستوى التوقعات العالية من الجيش، بفضل التقارير الأمنية المغلوطة.