يسجّل الباحث الكيني المرموق علي مزروعي أنّ علاقة العرب بالقارّة الأفريقية تمتد على 12 قرناً، لعبوا خلالها دورَين أساسيين: الأوّل، بصفة شركاء متواطئين في تجارة الرقيق؛ والثاني، ابتداء من منتصف القرن العشرين، كحلفاء في حركات التحرر الأفريقية. بذلك فإنّ العربي كان فاتحاً، في الأطوار الأولى من العلاقة مع الأفارقة، ثمّ صار شريكاً في التحرر؛ تاجراً، بضاعته العبيد؛ أو حامل انعتاق، بضاعته الأفكار الجديدة. ولم يكن الإسلام، في الجانب الذي يخصّ انتشار اللغة العربية على وجه الخصوص، بعيداً عن هذه المعادلة؛ التي ستجعل من الفصحى، أو اللهجات السواحيلية المتأثرة بمفرداتها، لغة سائدة أو حتى طاغية.
وفي الذكرى المئوية لولادة جمال عبد الناصر (1918 ـ 1970)، يُستذكر للزعيم المصري دور حاسم في توطيد هذا الانتقال، أو بالأحرى: تدشين النقلة الكبرى، في العلاقة بين العرب والأفارقة. هنا، أيضاً، يشير مزروعي إلى أنّ تجذّر أفكار عبد الناصر، وتجسيدها بعدئذ في الممارسة والسلوك والقرارات الفاصلة، أفزع المستوطنين البيض في كينيا وروديسيا وجنوب أفريقيا والمستعمرات البرتغالية؛ خاصة بعد اقترابه أكثر من الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا، وصمود مصر أمام العدوان الثلاثي البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي، سنة 1956. كذلك كانت دعوة عبد الناصر إلى «جامعة أفريقية»، حتى في مفهومها الخام الغائم والتبسيطي، تسهم في تقويض مفاهيم أخرى سبق للقوى الاستعمارية أن ابتدعتها وروّجت لها، على شاكلة «وحدة وادي النيل» مثلاً.
وفي «فلسفة الثورة»، اعتبر عبد الناصر أنّ مصر واقعة في المركز من ثلاث حلقات: العالم العربي، والعالم المسلم، والقارّة الأفريقية؛ وعن الحلقة الثالثة كتب (وأفكاره وليدة أواخر الأربعينيات ومطالع الخمسينيات، كما يتوجب التذكير): «إننا لن نستطيع بحال من الأحوال ـ حتى لو أردنا ــ أن نقف بمعزل عن الصراع الدامي المخيف الذي يدور اليوم في أعماق أفريقيا بين خمسة ملايين من البيض ومائتي مليون من الأفريقيين. لا نستطيع لسبب هام وبدهي، هو أننا في أفريقيا. ولسوف تظل شعوب القارة تتطلع إلينا، نحن الذين نحرس الباب الشمالي للقارة، والذين نُعتبر صلتها بالعالم الخارجي كله. ولن نستطيع بحال من الأحوال أن نتخلى عن مسؤوليتنا في المعاونة بكل ما نستطيع على نشر الوعي والحضارة حتى أعماق الغابة العذراء».
ورغم ذلك، ورغم أنّ عبد الناصر انتقل من التنظير إلى التطبيق فساند معظم حركات التحرر الأفريقية مادياً ومعنوياً، لم يكن من السهل أن يمسح الأفريقي، سريعاً، تلك الصورة الراسخة في ذاكرته، والتي تختزل العربي في صورة تاجر الرقيق، خاصة وأنّ المناهج المدرسية، التي وضعتها سلطات الاستعمار ذاتها، كانت تحرص على تثبيت تلك السردية تحديداً. التوجّه الآخر الرديف في تلك المناهج تضمّن المزج بين شخصية العربي تاجر الرقيق، والعربي بوصفه المسلم الفاتح أيضاً؛ القادم لتقويض الديانات المحلية على اختلاف عقائدها وشعائرها، خاصة الوثنية والطوطمية، وإحلال الإسلام والتوحيد محلها، بالقوّة والإجبار. ولم يكن غريباً، إزاء حال كهذه، أن تلجأ سلطات الاستعمار البريطاني إلى محاربة تجارة الرقيق العربية في تبرير احتلال هذا البلد أو ذاك.
على نحو آخر، وفي جبهة أخرى، كانت أفكار عبد الناصر حول الانفتاح المصري على القارة قد لقيت ممانعة من جانب زعماء ومفكرين أفارقة؛ ارتابوا في أنّ الغايات البعيدة هي إلحاق بلدان أفريقية بمحاور عربية، خاصة حين كانت مصر في وحدة مع سوريا، البلد الآسيوي في نهاية المطاف. ذلك كان موقف زعيم أفريقي بارز مثل الغاني كوامي نكروما، الذي ساجل بأنه «لا يمكن لأية حادثة تاريخية أن تنجح في تحويل بوصة واحدة من تراب أفريقيا إلى امتداد لأية قارة أخرى». لكن الزمن لن يطول به حتى ينخرط مع عبد الناصر في حركة عدم الانحياز، التي ضمت بلداناً في آسيا (الهند وأندونيسيا)، وأوروبا (يوغوسلافيا)، فضلاً عن مصر الأفريقية.
أوبافيمي أوولو، الزعيم القومي ورجل الدولة النيجيري البارز، اتخذ موقف النقد الشديد لمفاهيم عبد الناصر حول الشطر الأفريقي من الهوية المصرية؛ وكتب: «إن الجمهورية العربية المتحدة، المخلوق الأثير عند عبد الناصر، والتي تضع قدماً في أفريقيا وأخرى في الشرق الأوسط الآسيوي، هي النقيض الصريح لفكرة الوحدة الأفريقية». لكنه سرعان ما أدرك الدور التحرري الأعرض نطاقاً، الذي يلعبه دعم مصر لحركات التحرر في عدد من البلدان الأفريقية؛ ضدّ سياسات الاستعمار القديم عموماً، وأنظمة الاستيطان والتمييز العنصري والأبارتيد خصوصاً.
ذلك التحوّل بدا ثمرة طبيعية لاستمرار مصر في الانفتاح الملموس على القارة، والانحياز الأوضح إلى الهوية الأفريقية، حتى أنّ العاصمة المصرية باتت ملجأ ومقرّاً للأنشطة الأفريقية ضدّ الاستعمار، كما استقبلت الجامعات المصرية مئات الطلاب الأفارقة، وتحولت إذاعة القاهرة إلى منبر للقوى والأحزاب الأفريقية المنادية بالاستقلال والتحرر. وهكذا، وعلى نحو تدريجي، تجاوزت مصر مفارقة انتمائها إلى العمق العربي أكثر من الأفريقي، وتحوّلت إلى أكثر دول شمال أفريقيا دفاعاً عن مفهوم الجامعة الأفريقية. وفي المقارنة مع نكروما، مثلاً، بدا مؤكداً أنّ عبد الناصر مصري بمعنى تاريخي أعمق بكثير من كون نكروما غانياً؛ الأمر الذي لم يكن يلغي حقيقة أنّ الأخير أفريقي، بمعنى تاريخي أشد عمقاً من انتماء عبد الناصر إلى هوية أفريقية عامة.
وفي خضم هذه التحولات النوعية التي طالت صورة العربي، والمسلم، في الوعي الجَمْعي الأفريقي؛ توفرت تلك المفارقة الكبرى: لا العرب، ولا الأفارقة أيضاً، كانوا أوّل من أدرك مخاطر الترابط الوليد الذي أخذ يتوطد بين الشرق الأوسط وأفريقيا؛ بل كان المستوطنون البيض في أفريقيا، والقوى الاستعمارية والإمبريالية الأوروبية إجمالاً، هم السبّاقون إلى ذلك الإدراك الحاسم. بات معروفاً الآن، على سبيل المثال، أنّ السلطات الاستعمارية البريطانية في أفريقيا أعربت عن قلق عميق إزاء تحولات مصر؛ وكانت سياسات عبد الناصر الراديكالية المبكرة، داخلياً وعربياً ودولياً، قد أكدت تلك المخاوف، التي تُرجمت بعدئذ إلى سلسلة سياسات غربية مضادة اتخذت صياغات عسكرية وأمنية واقتصادية.
في بُعد آخر للمسألة الناصرية/ الأفريقية، إذْ انقلبت هكذا في الواقع ولم تعد تقتصر على علم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا؛ انقسمت القارّة إلى كتلتين، حين كانت خيارات عبد الناصر تتفاعل على مستوى الشعوب والأنظمة معاً:
ـ كتلة الدار البيضاء الراديكالية (وتألفت من مصر والمغرب والجزائر وغانا وغينيا ومالي)، ودعت إلى وحدة سياسية أفريقية متينة، ودعمت قيام حكومة مركزية قوية في الكونغو بقيادة لومومبا، وعارضت انشقاق إقليم كاتانغا (بمساندة بلجيكا، التي استعمرت البلد)، وناهضت تحالف موبوتو ـ تشومبي المؤيد للغرب.
ـ كتلة مونروفيا المحافظة (وضمّت معظم الدول الناطقة بالفرنسية، بالإضافة إلى ليبيريا ونيجيريا)، ودعت إلى نقيض سياسات كتلة الدار البيضاء، كما طرحت صيغة اتحاد فضفاض، ونظام ولايات فدرالي في الكونغو.
صحيح أنّ وقائع التاريخ اللاحقة، في مصر والعالم العربي وأفريقيا، تكفلت بإعادة خلط الأوراق، وتفكيك وإعادة تركيب المحاور والكتل؛ إلا أنّ التطور الأكبر الذي رسخ، وما يزال قائماً اليوم بدرجة كبيرة، هو أنّ صورة العربيّ تبدلت جذرياً بفضل سياسات عبد الناصر الأفريقية. ولم يكن يسيراً، في حسابات الاجتماع الإنساني التاريخي والجغرافي، أن يتحوّل العربي من تاجر رقيق وفاتح عسكري وديني، إلى شريك في التحرّر، ومشارك في… التحرير!