رغم كل الملامح البادية لقيام الدولة على قواعد و مقتضيات الحداثة تبقى الحقيقة المرة أن واقع سيرها ظل محكوما بذات قواعد "اللا دولة" التي كانت قبل الاستقلال:
· قبائل و شرائح،
· إثنيات و طبقات،
· وهم "إمارات"،
· و ضباب "مشيخات"،
· مفرزات عصاباتية تجني المال و تنحت قوة بقاء هيمنتها من داخل هذه الحصون الماخرة عباب الزمن و الممسكة بطول المكان و عرضه في تبادل موسمي لأدوار الحفاظ على البقاء حتى ظلم مطلق ينفي البلد من متن الوجود، و لا عدل وسطي يبقي على بؤر أمل مرحلية.
و القبلية كما كانت، بفارق الزمن و الوسائل و الأهداف الشكلية، لا تزال بكل الاعتبارات تراوح مكانها، تشحذ أسيافها عند الاقتضاء و تضعها في أغمادها عند الاستكانة أو الرضا، تتحالف بالروح الشيطانية الحارقة في الثوب الطهور المصطنع لضمان حصتها من الفرائس و الجاه، و تختفي "تكتيكيا" و "خداعا" لتعادي بالنفاق و الدهاء.. تلبس للأمر كل لبوس و تجتهد في انتقاء الفؤوس لتقتلع في الخفاء كل الجذور. و ما القطاعات في كل أحوال فشلها و فوضويتها "الصامتة" إلا "ناطقة" بهذا الواقع المهين للوطن، المدمر للكيان و المخل برغبة التحول إلى آفاق دولة العدل و المواطنة في ظل الإسلام الصحيح المنقى من أدران نفسية و عقلية "السيبة" العصية.
خطر الأمَرَّين "أتايْ" و "اجماعتُ"
من القطاعات ما هو شبيه بأوكار الضباع، يَرى فيها الزائر كل بقايا الجيف النتنة مما افترس الأسد و أوقع النمر و ترك الدب و تسللت إلى أحشائه الأفاعي و العقارب.. أوكار فيها من عجائب الوشاية أصناف لم تعرفها قط الحرب الباردة، و مستهجن الدسائس و خبيث المؤامرات تحيكها الأوجه المستعارة بكل أقنعة التلون، و من الاستنكاف عن العمل و نبذ الإنتاج و احتقار المهنية و التنصل من جميع علامات الاستقامة ما لا تنكره دورة الشاي المثبطة للهمم و التي لا تنقطع، و حديث "الخواء" المنثور و المقفى حول ثلاثية الكؤوس من سببية أداء الواجب و إرضاء الضمير.. أوكار إن لم يتدارك أمرها و تنقى من دنس الأمرين: الشاي المسترسل و الأخطر من الخمر، و "اجماعتُ المقرونَ" التي تضعف إرادة الأداء و تشوش على ذهنية الحاضر بأهازيج الماضي فإنها حتما، عاجلا أم آجلا، ستُحل بهذه القطاعات ما لا تُحمد عقباه من التأخر و شلل لغير مصلحة البلد.
حانة الماضوية المتحجرة
فيما يعود ظافرا من المحطة الفضائية الدولية الفضائي الفرنسي الشاب "بسكيو" و يموت في أمريكا رائد الفضاء الأمريكي "جون يونغ" بعد أداء علمي غزير و عديد الرحلات إلى مجاهل الفضاء و الهبوط على سطح القمر، و يراوغ الشبل الكوري "هونع" بصواريخه البالستية، و يشارك علماء المغرب في البحث عن الحلول العلمية لارتفاع درجات حرارة الكوكب، و يبني الصينيون مئات الجزر الاصطناعية بتكنولوجيا عالية، و يفرض السنغاليون بذكاء الاحتفاء عالميا بعالم الانتربولوجيا و المؤرخ الفذ "آنتا جوب" و يحتفل غير السينغاليين بفطاحلة العلماء و سدنة التغييرات الكبرى داخل بلدانهم في جميع القارات، نظل نحن في هذا المنكب البرزخي نتغذى على مصطنع التاريخ العقيم و الغفلة بـ"التشاعر" المنوم و ادعاء الألمعية و النبوغ، و يتهافت الأقوياء منا على خزائن الدولة بعتاد و لسان و جرأة الصعاليك و قانون الغاب الراسخ في الأذهان.. و العجيب الغريب، المؤلم المحير أن حركية هذه الحياة الساذجة، رغما عنا، تجري في أجواء من التخلف المرير و تعطل الطاقات أن وجدت بفعل الترفع عن العمل و الترف الهزلي في حانة الماضوية المتحجرة و تعاطي كؤوس الشعر المترعة فيها.
رحلة بحث عن مفتقد!
هل نحن شعب يكره نفسه و يحب الشعوب الأخرى بما يعاني من تنابذ و إنكار؟ و هل نحن إلا كذلك بما يرانا غيرنا نحتفي العام كله شعرا و نثرا و رقصا و من خلال التظاهرات و المؤتمرات و الحفلات و الندوات بأبطال و أدباء و إعلاميي و رموز و أفذاذ الآخرين ـ و إن يستحقون على نصل الندية لو لم يكن مكسورا؟ و هل يشفع لنا في مثل هذه الحيوية و البحث الدؤوب عن مشاعر عز و كرامة مفقودين - و كأننا نوقع على انتفائهما من حياضنا - قليلُ وجود لمثل هؤلاء فينا فيحق القول إن هذا الغياب هو تأكيد انتفاء المسبب لقيام السبب، إذ لا شخصيات عندنا تفرض مثل حضور هذا الشعور المفقود و هذه العزة المشتهاة و الإحساس الغائب لدوافع الوجود؟
غياب الأنشطة العلمية
دعيت إلى عدد كبير من التظاهرات ذات العناوين الثقافية و الفكرية الأخاذة و الجذابة للمشاركة فيها، كما فاتني حضور تظاهرات كثيرة أخرى تصب في ذات الاهتمامات لم أدع إليها و لكنني تابعتها عبر التلفزيون و قرأت عنها في المواقع الالكترونية.. و نظمت هذه الأنشطة جهاتٌ عديدة تحت مسميات مختلفة منها المراكز البحثية و الجمعيات العلمية و الروابط الثقافية و المؤسسات و المراكز الثقافية لبعض الدول الأجنبية الصديقة بفعاليات و محاضرين وطنيين، انصبت في مجملها حول مواضيع "سهلة" لم تخرج في مجمل محتوياتها عن المعالجات التاريخية المكررة و المقاربات حول العلاقات بين الدول، و عن و الأدب و الشعر و المحاظر و الكتب القديمة من زوايا جامدة و مائعة لا تحمل أبعادا بحثية مستجدة، و المقاربات حول المخطوطات التي جمعت و نالت قسطا كبيرا من الاهتمام و الترميم و الحفظ و دراسة المحتويات و ترتيب تراجم المؤلفين. و في خضم هذه الأنشطة، الذي بدت في ظاهرها حافلة بالطفرة النوعية و حاملة بشارات التجديد الفكري، غابَ الخط العلمي و المنهج التنويري و المحفز الحضاري إلى الأخذ بالعلوم الجديدة و الالتحام بالعصر في ثوب التجرد من عقد الدونية المتدثرة بالتغني بالأمجاد و المقيدة بالادعائية و النأي عن العمل الميداني الذي يشكل الرافعة الوحيدة الحقيقية أمام تحديات التخلف الفكري و الثقفي و العلمي المزمنة الكابحة.