يسألونك عن النخب "العلمية و الفكرية"، قل هي أذى "الطبيب" الذي يسحب عدواه على "مرضاه" في بلد يغشى الجهل السواد الأعظم من أهله الذين ما زالت تتحكم فيهم الخرافة تارة من ظلامية متعمدة، و الحدة و العنجهية و البلادة من سلطان القوة الغاشمة تارة أخرى. فهل يجوز إطلاق مصطلح "النخبة المتنورة" على غير الملتزمين بالسلوك الذي تقره و تمليه قيم المعرفة و علو النفس بالعلم عن سقطات الدهماء؟
و يسألونك عن النخب "السياسية"، قل هي أذى التملق و الانتهازية و الغضب و الحقد و تصفية الحسابات في حلبة يعمرها طمع النفوس في الجاه الغليظ و المال السهل و التسلط على العباد و البلاد. فهل يجوز إطلاق مصطلح "نخبة قيادة الرأي" على غير الملتزمين بالتعهدات و المواثيق التي تمنع من الانزلاق إلى حضيض الغرور النرجسي الارتكاسي الذي يقول لسان حاله "أنا و من بعدي الطوفان"؟
و يسألونك عن النخب "الاقتصادية و الصناعية"، قل هي أذى "السراب" يُوهم بماء منهمر و هو عديم فيقتل من عطش مهلك غشيم، زِد هي الظلم بالنهب، و الدمار بالفساد على أرض تخلو من كل وسائل مقاومة التخلف و مقومات الصمود في وجه الفناء. فهل يجوز إطلاق مصطلح "نخبة الاقتصاد و المال البناء" على غير الملتزمين بتلبية صرخة الوطن من أجل الصناعة النابعة من وجع عميق وأليم طال أمده ومن وقع النزف الذي يصيب البلد من جراء غياب هذا القطاع الحيوي والأساسي في الاقتصاد الوطني وفي حياة البلد و المجتمع؟
الاستئساد و الاستئذاب
النفاق و الاستكانة و العنجهية و الإقصاء و الحيف أسلحة مشروعة في هذا البلد بدأ استخدامها بكل عياراتها منذ أيام "شر ببه" التي شكلت منعرجا خطيرا ـ في تاريخه المائع الخالي من كل علامات الدولة المركزية أيا كان نوعها ـ انقلبت فيه جملة موازين القيم من "فطرة الخير" الظاهرة في مسطرة الصدق مع الله و حسن العشرة البينية، إلى "نزعة الشر" المستترة وراء حجب الزيف و التملق و الشر المضمر و المراوغة لتختفي الفروسية و ينضب الإيمان و يستأسد الأقوياء و يستأذب الضعفاء و يختلط نابل الواقع المرير بنابل شره المستطير و تنقلب كل آية انسجام مع النفس و المحيط إلى ضدها.
حتما سيأتي التغيير
يضحك المنافقون، و إن أبوا التصنيف لعلة تضخم الأنا "التعويضية"، من السياسيين الميكيافليين و النخب القبلية و العشائرية و الإثنية و الشرائحية مثقفة و عادية لأنهم بتملقهم خطابتهم المتحررة من كل ضوابط اللياقة يحصلون على "بطاقة المرور" إلى دوائر الفساد "التسييري" و النفوذ بـ"الجاه الحكومي" على حساب الغالبية العظمى من مواطنين في كل تلك السياقات الإنتمائية المرتبطة بـ"منطق" بالي من زمن ولى و الذي لا يبدو أن أحدا يرى آثاره السلبية الواضحة على مسار البلد المتعثر و على مستقبل مواطنيه المصفدين عن فعل التنمية و السعي إلى الحداثة.
و ما لوم النخبة و توجيه النقد لها إلا من باب طلب التغيير لأنه في التغيير حتمية التحول من السيئ إلى الحسن؛ حسن لا يمكن أن يحصل إلا بها.. هذه قناعة راسخة لدى الكثير ممن يسوؤهم واقع الممارسات الخاطئة للمتملقين و الانتهازيين و السياسيوين و المفسدين المتدثرين برداء القبلية اللئيم..قناعة بأنه حتما سيأتي التغيير.
الجهاد ونقيصة التشويه
ليس في جهاد الأجداد إلا ما يستحق التثمين و الإشادة و الترسيخ في الذهن و الضمير و الوجدان و الشعور الوطني، لكن العلة التي تعتريه و تحول دون التحام الشعب بجميع فئاته و إثنياته و شرائحه بتاريخه إرثا مشتركا و الإشادة بجوهره موجها و مفتخرا تكمن في تشويه البعض الكثير لملامحه الفريدة بالتحريف و الارتجال و الخرافة "التروبادورية" و البتر و الزيادة و التبلد السردي و غياب الكتابة الرصينة المحصنة و الاسترسال في الغنائيات الغرضية التمجيدية التي تحط من قدر الوقائع و تنسف الموضوعية حولها و تشوه وجه الحقيقة الناصعة الني لا يحتاج إلى التضخيم و التجميل.
و إن للحق رجالا سيأخذون مواقعهم المستحقة في مضمار كتابة تاريخ هذا الجهاد بكل أوجهه لكن بما يليق من الأمانة، و سيدحضون بما هو مطلوب من الشجاعة المزاعم و يحاربون الارتجال الغنائي و التلميعي و يضبطون بالصرامة العلمية و الكفاءة البحثية الوقائع و الأحداث و يغربلون بنزاهة و تجرد كل حقبة "الاستعمار" فيُعَرُّون النواقص و أهلها و ينصفون الأماجد بذكر ما قدموه من تضحيات دون زيادة لإرضاء غير مطلوب و في غير محله، و دون نقصان لإحداث اختلالات غرضية غير واردة و مشوهة لتاريخ جهاد أبى إلا أن يستعصي على المرجفين و الباعة من خلال ضعف التسويق.. حتى يأذن الله و تتفتق مواهب صادقة يأخذها الإلهام إلى أكناه الجهاد و يوجهها صدق المقاصد إلى نشر الوعي به و الاعتزتز المستوطن النفوس و العقول و المهج و الضمائر.
هل نقتفي الأثر المحمود؟
و يكرمون بكل ما أوتوا من تقدير و محبة للغتهم و رموزهم ذاكرة كاتبهم جان دورمسون Jean Dormesson لحظة موته و كذلك مطربهم النجم "جوني هالدي Johnny Halliday" الذي مات هو الآخر و لم يمر الحدث عابرا.. هكذا تفعل الشعوب المتحضرة التي تحترم أهل العطاء فيها و لا تنكر عليهم بالصمت و الغفلة و الإنكار و النسيان. إنها الشعوب التي حولت أمراض القلوب إلى أفعال "التنافس" الإيجابي و "مضاعفة" العطاء و "رفع" قيمة بلدانهم من خلال مبدعيه العظماء. و لم تكن كلمة الرئيس الشاب "ماكرون" في فقيد لغة و أدب و فن و صحافة فرنسا و عضو أكاديميتها العظيمة "جان دورمسون" اعتباطية أو مناسباتية رسمية و إنما كانت كلمة مثقف اطلع للرجل على روايات و تابع أفلاما و قرأ مقالات و تحليلات و آراء جريئة و بناءة، كما جاءت كلمته عن جوني هالدي مفعمة بالاعتراف بالجميل لما حققه بصوته الأجش لفرنسا .. إنه صفاء نفس و نزاهة المثقف المتوازن و الوطني المخلص لثقافة أمته و أفذاذ بلده و مكانة وطنه. فهل ندرك أننا ما زلنا لا نتحدث بهذا المنطق في القرن الواحد و العشرين