شعاراً للثوار ونشيداً للأحرار أنشده فاروق هذه الأمة وخطابها ( عمر بن الخطاب ) حينما جاءه ذلك الرجل القبطي من أرض الكنانة والتاريخ ( مصر ) وهو يصطحبُ ولده وقد رأى الخليفة في عينيهما أي الوالد والولد ملامح الحسرة والألم لما لحق بهذا الشاب اليافع من أثر نفسي بالغ بسبب الإعتداء عليه والتطاول على كرامته .
تعود تلك المقولة الشهيرة للحادثة التاريخية التي وقعت في سباقٍ للخيل حيث كان يقوم بهِ ويُشارك فيه محمد بن عمرو بن العاص وقد شاركه السباق ذلك الشاب القبطي ، وبعدما إنتهت جولة السباق وتجاذبا الحديث حول أيهما الفائز فاشتاط محمد بن عمرو غضباً وضربه بالسوط وهو يقول : خذها وأنا ابن الأكرمين ، خذها وأنا ابن الأكرمين مردداً ذلك مرتين . وحينما علم أبوه بالتطاول والإعتداء عليه فسافر بصحبتهِ من مصر قاصداً المدينة المنورة لأنّ فيها خليفة لا تَضيع عنده الحقوق ويُستجار عنده الخائف واللهفان وقد سارت بقصص عدلهِ الركبان ، فشكى الرجل القبطي إلى عمر الفاروق ما فعله ابن عمرو بن العاص فاستدعاه مع أبيه والذي كان والياً على مصر ، وعندما قدما وتحقق من ثبوت الإعتداء وقد شاهد الابنَ وهو لائذٌ خلف أبيه فقال عمر : أين الولد المصري ؟ فقال : هأنذا ، فقال عمر : دونك الدرة واضرب ابن الأكرمين ، وكررها ثلاثاً فضرب الولدُ محمدَ بن عمرو بن العاص حتى أوجعه ، ولم يكتف عمر بن الخطاب بهذا الحكم بل قال له : ضعها على صلعة عمرو بن العاص !! فو الله ما ضربك إلا بفضل سلطان أبيه ، فقال الولد : يا أمير المؤمنين لقد ضربت من ضربني فقال عمر : أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه ثم التفت عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص وقال له : عبارته الشهيرة أيا عمرو! ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ ) بعدها التفت إلى المصري وقال له وكأنه يُطمئنه : انصرف راشداً فإن رابك ريب فاكتب إليَّ .
يستوجب مني الوقوف عند هذه الحادثة التاريخية الخالدة والتي تستدعي التأمل والتفكر مليّاً وأن لا نمر عليها مرور الكرام وللمقارنة بين قادة الأمة الإسلامية لا سيِّما في زمن صدر الموحدين وبين حاضرها وكيف نصنع مستقبلاً يتتبع أثر أولئك العظام لا على حاضرنا المتهري والمصاب بأوبئة التكبر والعجرفة والطغيان وفوق وهم الذات المنتفخة والتي تعاني من عدم الإمتلاء الحقيقي والواقعي نستجدي الأمم أن تعطف علينا من فُتات منتوجاتها .
أولاً : أقول لبعض العلماء والمحدثين من الذين حاولوا التشكيك في صحة هذه المقولة والحادثة كليهما أو إحداهما ، إن المقام ليس مقاماً فقهياً إستدلالياً لكي اُثبت لكم صحة الخبر من عدمه ولا مورداً عقدياً مُتعلقاً بأصل مِن اُصول العقيدة والإيمان بإعتبار أنّ الفقه والعقيدة موردا عمل وتكليف وإيمان وينبغي الإستدلال بما ثبُت وصح لا بما هو وهنٌ وضعيف ، وموارد التاريخ وفضائل السلف الصالح يتسامح فيها عادةً من حيث التشدد السندي والضوابط المتنية والقواعد الدلالية وكذلك لم ينسب الخليفة عمر الحكم الذي قضى به لرسول الله أو إستشهد بموردٍ من سيرة الحبيب أثناء التنفيذ لكي يقال أن المورد جاء في القضاء وقد نقله عن رسول الله وهذا يدخل الحكم في تلك الواقعة ضمن نصوص التشريع للإحكام بل قام به كحكم تدبيري إجرائي لا تشريعي نقلي بإعتباره ( الفاروق ) أحد نقلت الحديث النبوي الشريف ، ناهيك عن الشواهد الكثيرة في سيرته من عدلهِ وإنصافه للرعية تُرجح وقوعها وثبوتُها وشهرتها المنقطعة للنظير وذكرها من قبل محققين وعلماء كبار جابراً لِضعفها .
ثانياً : إن الرجل وولده كلاهما لم يكونا مسلمَين بل ومن بلاد قد أدخلها الفَتحُ في الإسلام وأن الشخص المُشتكى عليه هو إبن الوالي للخليفة لكنّ الرجل كان على يقين تام من أنّ الخليفة لا تَغفى له عينٌ وهناك مَن هو واجدٌ وسهران بسبب الظلم والحرمان .
ثالثاً : إنّ الإعتداء على الشاب لم يكن بالضرب المُبرّح لكي يُقال أنّ الخليفة تأثر عليه لما وجد به من آثار وجروح وذهابه من مصر للمدينة المنورة سالماً معافى أدل دليل على ذلك بل كان من أجل شخصيتهِ وكرامتهِ.
رابعاً : قال للولد اضربه وقل العبارة التي قالها محمد بن عمرو ( خذها وأنا إبن الأكرمين ) ثلاثاً فزاد واحدة على قولهِ وأيضاً قد طلب أن يضعها على صلعة عمرو بن العاص! وهنا يتبادر للذهن إشكال وسؤال بأنّ القصاص لم يكن عادلاً بحيث تضمن زيادةً في الضرب والقول والشخص فقد طلب أن يضعها على صلعة عمرو بن العاص وهو لم يشترك بالضرب ؟ فأقول إن محمد بن عمرو لم يكن قد أقدم على ذلك الفعل كشخص من سائر الناس بل إستخدم منصب الحكم والدولة والزيادة في العقوبة لا تقدح بالقصاص بل حفاظاً على القانون وهيبة الحكم والدولة وهذا ما نشاهده في الدول المتحضرة حديثاً عندما يستخدم المسؤول المال العام لتصرف شخصي ولو قليلاً يطالبونه بالإستقالة والمحاكمة ليس من أجل الكمية المتجاوز عليها بل للمنصب الذي هو ملك وحق للجميع ، لذا قال له ضعها على صلعة عمرو بن العاص وقال أيضاً ( أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه ) فعمرو لم يضرب بيده ولكن قصر في الأمانة التي بين يديه وإبنه لم يكن هو الوالي وليس المنصب بعهدته لكنه تصرف بحقٍ لا يملكهُ حيث قال خذها وأنا إبن الأكرمين فعندما نطق محمد بن عمرو بتلك الجملة فقد وضع لنفسه حصانة ولسان حاله يقول أضربك وأنا إبن الوالي لكي يكون رادعاً له إن فكر بالرد والمطالبة بحقه ، ومن هنا أقول لحكامنا وقادتنا قفوا قليلاً أنكم بمحضر الفاروق عمر .
خامساً : صك الأمان لهُ بعد القصاص حيث وأينما كان وليس في أرض المحكمة تحديداً ، فقد يتبادر للذهن أنّ القصاص قد تم لضغوط مجتمعية أو عرفية كما نشاهد ذلك حينما يعترض شخص أحد المسؤولين وهو أمام عدسات التصوير والجمهور وحينها لا مناص للمسؤول إلاّ أن يتظاهر بالعدل والإنصاف ثم يختفي أثر المطالب بحقه بعدما كان له عين وعندها يتمنى المسكين لو صُفع مراراً وتكراراً ولا سولت له نفسه أن يصرخ وينادي إنّني مظلوم هذا إذا ما كان يستطيع الندم والأسف أما إذا بضّعوه إرباً إربا فأمره عند ربٍ غفور، لذا أن الخليفة إلتفت إلى هذهِ الجزئية تحديداً لكي يُطمئنه ويُطمئن أيَّ ذي حق بأن لا يتردد أن يوقف ظلم الجلاد ومن أجل أن تكون قانوناً قضائياً للأنظمة على مر العصور وتُلزم الجهة التنفيذية بتطبيقه لكي لا يخشى صاحب الحق من المطالبة به وأن هناك دولة تحميه ولا يستغل أحد السلطة والحكم من أجل إرهاب الناس وتخويفهم .
أكتفي بهذا المختصر من أجلِ أن لا يَسأم القارئ الكريم في موضوعٍ ينبغي أن يكون تهليلاً وتسبيحاً لتلهج به ألسنتنا في الليل وأطراف النهار ألا وهو ( العدل ) وأهديها لإولئك الذين ضحوا بالغالي والنفيس وبلغت قلوبُهم لدى الحناجر حينما جاؤوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وهم يذودون عن رسالة الصادق الأمين الذي ما بُعث إلاّ أن يُتمم مكارماً للأخلاق وما بدلوا تبديلا ، سيِّما فاروق هذهِ الأمة وخطابُها ولله درّ شاعر النيل حافظ إبراهيم حينما وصفهُ بقصيدته العُمرية
حَسْبُ القَوَافِي وَحَسْبِي حِينَ أُلْقِيهَا
أَنِّي إِلى سَاحَةِ الفَـــــــــارُوقِ أُهْدِيهَا
رأيتَ في الـــــدين آراءً مــــــــــــوفقـةً
فأنــــــــــزل الله قرآنـاً يُزكيـــــــــــــــها
وكنــــتَ أولَ من قــــــــــرت بصحبتهِ
عين الحنــــيفة واجتازت أمـــــانيها
و يـوم أسلمت عز الحــــق وارتفعت
عن كــــــــــاهل الدين أثقالًا يُعانيها
فأنت في زمن المــــــــــختار منجدها
وأنت في زمن الصديق منـــــــجيها.
٭ إحسان بن ثامر كاتب عراقي