في صدر عام 1992 جئت الوكالة الموريتانية للأنباء شابا متعاونا يحمل طاقة واستعدادا للعمل يفوقان تجربته وخبرته الميدانية بكثير، كانت البلاد كلها تمور على أصعدة شتى.. ومن نعمة الله أن كانت المقاعد القيادية تحت أكفاء ذوي خلق رفيع؛ فمدير الوكالة يسلم ولد أبن عبدم، ومدير جريدة الشعب محمد الحافظ ولد محم ورئيس التحرير بابا ولد الغوث.
لكن رجلا هادئا يجيد عمله دون مباهاة لفت نظري من أول يوم لي هناك. إنه المرحوم إسلمُ ولد سيدي حمود، الكاتب المُجيد والصحفي البارع والسياسي الضليع. يدخل بهدوء ووقار، ويغض من صوته، وينظر إلى الصغير بأدب الناظر إلى الكبير، ويستمع طويلا ويتحدث قليلا.
كان اعتماد العمل على جيش من المتعاونين من بينه الزميل أحمد سالم ولد المختار السالم (النقيب السابق للصحفيين الموريتانيين) وآخرون منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وكثيرا ما عهدت الإدارة إلى الأستاذ إسلمُ بمراجعة ما ننجزه – معشر المتعاونين- وكان موقفه مني الاستحسان والإشادة؛ فلا أذكر أنه اعترض على شيء قمت به أو طلب تغييره سوى كلمة واحدة في تحقيق أعددته عن مركز تگند الإداري، قلت إن متوسط الأسنان به كذا، فطلب التعبير بالأعمار رفعا للبس.
في تلك الأيام كان إسلمُ – مع السيدين حمدي ولد مكناس رحمه الله ومحمذ ولد باباه حفظه الله- من بين الذين جمدوا عضويتهم في اتحاد القوى الديمقراطية بقيادة السيد أحمد ولد داداه عمره الله معافى في أزمة ليست مجال الحديث هنا، وهو حدث طَبَّل له إعلام النظام أيما تطبيل؛ الشيء الذي لم يسرر صديقي العزيز وزميلي المحترم إسلمُ.
واصلت المجموعة مسارها فشكلت حزبها (UDP) ليكون وسطا بين النظام والمعارضة في مجتمع حدِّيٍّ، فتضرر من حيث أريد له أن يستفيد؛ فلا المؤيد يقنع بما دون حزب النظام، ولا المعارض يقنع بما دون ذوي الموقف الأقصى في مجابهة النظام، وآل حال الحزب إلى ما هو معروف.
مما أذكره أن دخول مكاتب الوكالة بالدراريع مُنِع سنة 1993 فكان إسلمُ – رحمه الله- المتمسك بزيه، يتناول أوراقا بيضا من رئيس التحرير عبر النافذة ويجلس في الفِناء على مقعد تحت شجرة ظليلة وينجز عمله الذي كان أساسه تحليلا إخباريا بعنوان "وراء الأخبار" ويسلمه إلى رئيس التحرير من حيث أخذ الأوراق وينصرف.
غادرت الوكالة بعد حوالي ثلاثة أعوام مدفوعا بالحيف والغبن.. لكني ربحت أصدقاء أعزة من بينهم المرحوم إسلمُ الذي استمرت لقاءاتي به على غير انتظام، وكان من آخرها لقاءات متكررة على طريق الصكوك تجمعنا معا فنتمشى على إيقاع الذكريات.
اليوم وقد طالعني نعي الأستاذ إسلمُ ولد سيدي حمود رحمه الله، أتقدم بصادق التعزية إلى أسرته الكريمة وزملائه ومعارفه؛ كل باسمه وبصالح وسمه. وإنا لله وإنا إليه راجعون.