ظلت المؤسسة العسكرية تلعب دورا رياديا في الحياة العامة لبلادنا، رغم اختلاف المجالات وتباين مضامينها.
ومنذ أن أدت الوضعية التي تبلورت قبل الانقلاب على أول رئيس مدني لموريتانيا المختار ولد داداه إلى ما أدت إليه من وصول للجيش إلى السلطة، ذلك الجيش الذي كان حينها يفتقد إلى أبسط مقومات البقاء والمنافسة من قتال وخوض للمعارك، إلا إذا استثنينا بعض الأمور المعنوية أساسا كالبسالة والاندفاع، الشيء الذي مصدره بالأساس حب النخوة وإظهار العروبة بمفهومها الاجتماعي السائد عندنا، والذي هو بالأساس لا يعتمد على عرق الانتماء بقدر ما يعتمد على الممارسة والسلوك واكتساب المظاهر المحددة لذلك.
لقد كان الجيش الموريتاني عند أخذه بزمام السلطة( اللجنة العسكرية للخلاص الوطني) في أضعف حالاته وأفقرها بالوسائل اللوجستية، وقد عرت حرب الصحراء ذلك وكشفته جليا، حيث وصل مقاتلو هذه الجبهة إلى مشارف العاصمة انواكشوط، وأظهروا تهديدا كبيرا، هذا بالإضافة إلى الخسائر المادية والبشرية الحاصلة في كلا الطرفين.
لقد ظلت هذه الحالة شبه رتيبة لسنوات عديدة حتى مع محاولات السلطات المتعاقبة على البلاد تقوية هذا الجيش والتحسين من أدائه وقدراته، تلك المحاولات التي يبدو أن شبح الحرب بين بلادنا والسنغال وما تبع ذلك من تداعيات كانت المنعطف الحقيقي فيها بفعل المساعدات العسكرية السخية التي حظي بها الجيش الموريتاني آنذاك من الشقيقة العراق وذلك الدعم الخاص الذي قدمه المرحوم الرمز *صدام حسين* .
مع مرور الزمن وتغير موازين القوى العالمية وظهور تحديات جديدة، مثل الجرائم العابرة للحدود من مخدرات و إرهاب و هجرة سرية ظهرت الحاجة ماسة إلى تطوير الجيش أكثر من ذي قبل، شأنه في ذلك شأن كل الجيوش العالمية، محورية كانت أو هامشية من تلك الجرائم و التحديات.
لقد كانت قيادة بلادنا في هذه الفترة بالذات أمام تحديين كبيرين، الأول هذه الجرائم العابرة للحدود والثاني الانقلابات التي تتهددها في تلك الفترة، بل قبل ذلك بدءا بنهاية الثمانينات و وصولا إلى السنوات القليلة بعد عام ألفين.
إن ما ميز تلك الفترة في التعامل مع الجيش هو أن السلطة الحاكمة آثرت تأمين نفسها على كل الجوانب الأخرى من خلال تقوية الكتيبة الخاصة بحمايتها مباشرة على حساب بقية مكونات الجيش الأخرى المسؤولة عن تأمين الحوزة الترابية!، وهو الخطأ الذي ستعاني منه البلاد لاحقا، وتمت ترجمته فعليا من خلال العمليات الإرهابية التي راح ضحيتها مواطنون مدنيون وعسكريون وطنيون وأجانب، ومن ذلك مثالا لا حصرا ما حدث في ألاك وتورين والقلاوية ولمغيطي، كل ذلك أظهر هشاشة الجيش وعدم جاهزيته التامة ومواكبته الفعلية المتزنة للتحديات المطروحة، و أظهرت أن نواة القوة في الجيش ملتفة حول شخص الرئيس ومعنية بتوفير الحماية له فقط!!.
ومع بداية العقد الحالي أدركت القيادة العامة للجيوش بجلاء حجم الخطورة على حقيقته، و أن الذود عن الحوزة الترابية هو لب السيادة الوطنية وصمام أمانها وهو ذاته مصدر الحماية للأمة بكامل أفرادها فعمدت حينها إلى الرفع من مستوى الجيش، بتوجيه الموارد الكفيلة بجعله قادر على مواجهة التحديات فدعمت قدراته اللوجستية والتكوينية وعملت على تجسيد الرضا المادي والمعنوي لكل أفراده، وطبعا جنت ثمار ذلك حينما أصبح الجيش فاعلا أساسيا في منطقة الساحل والصحراء و حليفا استراتيجيا مع دول الجوار، بل ذهب أبعد من ذلك عندما ساهم بشكل مباشر في إرساء الأمن في بلدان بعيدة عن حدودنا، كإفريقيا الوسطى و ساحل العاج، وساهم هذا الجيش في توطيد الأمن ومحاربة الإرهاب إقليميا بالتدخل المباشر، ودوليا بتبادل الخبرات ونقل التجارب الموريتانية الفعالة في ذات المجال.
لقد أدت التطورات الميدانية و ما آلت إليه وضعية الجيش الوطني من تحسن بفعل حنكة قيادته الحالية وبعد النظر الذي تتمتع به والخبرة الواسعة المشفوعة بالحكمة والرزانة والتريث كل ذلك أدى إلى التطور المشهود والمشاد به محليا وإقليميا ودوليا، والذي دفع بكبريات الجيوش في المنطقة وخارجها إلى اللجوء إلى إبرام علاقات تعاون بينها و الجيش الموريتاني، والمثال الإفريقي ممثلا في كل من مالي وكوت ديفوار و كذا المثال الآسيوي من خلال السعودية والإمارات، وكذا التعاون العسكري المعروف مع إسبانيا البلد الأوروبي الرائد..كلها تحالفات وعمليات شراكة ما كانت لتكون لولا التطور والتحسن في وضعية الجيش المادية والمعنوية مما ينبئ بأن الرهان المستقبلي سيزداد اتساعا كلما ظلت الخطوات في نفس المسار وعلى نفس السكة وتحت نفس الرعاية والوصاية.
سيدن ولد السبتي.