في شريط للفيديو شاهدته مؤخرا، كان ثمة شاعر أمريكي شاب، يجلس في أحد الأركان الضاجة، في مدينة نيويورك، صحبة آلة كاتبة. كان يكتب قصائد سريعة جدا، يبيعها لزوار ركنه بحسب الطلب، بدون أن يحدث أي استغراب، أو سخرية، أو إساءة.
كان الراغبون، يدفعون للقصائد، بطيب خاطر، يحملونها ويمضون ليأتي غيرهم.
أعتقد أن الشاعر هنا، حوّل موهبته في الكتابة، إلى حرفة، يرتزق بها، وهو ما يبدو طبيعيا في بلاده، أن يرتزق الإنسان بأي شيء يستطيع إجادته، أو يستطيع توفيره. ونشاهد كثيرا أشخاصا يحملون حبوبا في جيوبهم، ويعترضون السياح في الميادين الكبرى التي يرعى فيها الحمام، ليبيعوا الحبوب لمن يرغب في جذب الحمام ومداعبته، أيضا نشاهد موسيقيين يعزفون للمارة، مقابل أن يلقي المستمع شيئا من المال، في أقداح، أو قبعات موضوعة أمامهم، ورسامين يمكن أن ينجزوا لوحات سريعة للوجوه، وبمقابل بسيط جدا، وتبدو لوحات صادقة، وعلى الرغم من أن الأمر يبدو أشبه بالتسول والبطالة، إلا أن استغلال البطالة جنبا إلى جنب مع الموهبة، في اكتساب الرزق، لا يبدو لي سيئا، على الأقل، أكثر جدية من مجرد التسول باستخدام عاهات صادقة، أو مزورة كما نشاهد عندنا.
بيع الشعر في حد ذاته مستهجن عندنا، والكتابة عموما بشعرها ونثرها، لا تبدو حرفة ذات جدوى، أو يمكن الوثوق فيها، إن اراد أحد أن يعمل كاتبا، وحين كنت أكتب الشعر الغنائي في بداية احتكاكي بعالم الكتابة، وأنا طالب صغير، كنت أغذي المطربين بقصائد أكتبها بجدية ووجع كثير، والمطربون يلحنونها ويتغنون بها في الحفلات العامة والخاصة، ويكسبون الكثير، ويعيشون نجوما، محاطين بالشهرة والمال، ولم يحدث أن تقاضيت أجرا عن قصيدة، ولا حتى دعوة غداء أو عشاء لتطييب الخاطر، وأيضا بلا أي ذكر للشاعر في مناسبات تستوجب أن يذكر، كان الشاعر وما يزال آلة كاتبة شبيهة بآلة الشاعر النيويوركي، تكتب قصائد العشق، وتزود بها نجوم الغناء، ولا شيء آخر، قد يجوع وقد يمرض وقد يموت، ولا يحس من غنى قصائده، ومن طرب لها، ومن رقص ابتهاجا بكلماتها.
حين كنت أعمل في السودان، وأثناء مروري اليومي على عنابر المرضى، عثرت مرة على شاعر كبير، له دواوين شعر، وقصائده تنشر هنا وهناك في صحف محلية، وعربية، وشعره في الحقيقة من أميز ما يمكن قراءته، كان موظفا في إحدى الجهات، ولكن عطاءه لم يتوقف قط، كان الشاعر مريضا بالحمى ويهذي، وقد التقطه البعض في ما يبدو من أحد سيارات المواصلات العامة، حين أغمي عليه فجأة، كان راقدا مع شخص آخر، على السرير نفسه، في واحد من أسوأ عنابر الاستشفاء، في مستشفى هو أصلا لم يعد مؤهلا لمنح الشفاء الكامل لأحد، بعد أن تخلت عنه الخدمات، وطيبة القلب. ولأنني صدمت فعلا، فقد قمت بنقل الشاعر إلى مكان أنظف، وطلبت من ممرض شاب أن يتولى رعايته، محاولا إفهامه، أن الشعر ليس مشتتا في الطريق، ليعثر عليه أي أحد، وهذا الذي أمامه، كنز لأنه يملك ما لا يملكه معظم الناس، وبالطبع لم يفهم الممرض الشاب دوافعي، ولا أظنه وافقني على قيمة الشعر، لقد اهتم بالشاعر من منطلق آخر، هو أنه تلقى تعليمات تقضي بالاهتمام به.
في زيارة قمت بها بداية هذا العام لمدينة بورتسودان التي عشت فيها سنوات كثيرة جيدة، ولي فيها ذكريات كبرى، كما أردد دائما، التقيت بشاعر أغنية قديم كنت تعلمت منه الحيل، ولطالما بهرتني صوره الشعرية التي تنساب كأعذب ما تكون الصور، أيضا كانت تأسرني حكاياته عن العشق، التي قد تكون متخيلة، لكنها كانت حكايات آسرة، وخصبة في ذلك الزمان. كان الشاعر قد شاخ بالفعل، سنوات غزيرة أنفقها في مغامرة القصائد، وتغذية النجوم بالفن الشعري، وما زال كما هو، يسكن في بيت صغير متواضع، في حي بعيد، يستخدم المواصلات العامة في التنقل، يقف في طوابير طويلة في المستشفى من أجل أن يتعالج إن مرض، وحين يسأل مغنيا عن حقوق قصائده، يواجه بتلك العبارة المشؤومة: لا أحد يبيع مشاعره.
نعم، هي عبارة فصلت لزجر الشعراء فقط، بينما يظل المغنون الذين يرددون الشعر، نظيفين منها، فالمشاعر هي الشعر، واللعلعة بالشعر، ليست مشاعر على الإطلاق، وإنما شيء آخر، شيء مثل الحلوى والصابون، وملح الطعام، تباع بعادية مطلقة.
لقد طرحت مسألة شاعر نيويورك، على أصدقاء يتابعونني، وسألت عن إمكانية تطبيقها في العالم العربي، حيث يأتي شاعر قديم أو جديد لا فرق، ليجلس في أحد الميادين الكبرى في القاهرة أو بيروت أو بغداد، ويبيع الشعر للمارة، وكانت الآراء كما توقعتها، سلبية للغاية، فلا أحد سيعترف بدكان المشاعر، حتى لو باع الدرر، ستتكون كثير من علامات الاستفهام، وستنشأ تخمينات عن جنون الشاعر، وتبتئس الحياة لديه، أكثر مما كانت بائسة. أما إن جلس وكتب القصائد ووزعها مجانا، فلا بأس، سيتقاطر عليه الكثيرون، وستنفذ أوراقه من الزحام. أيضا ذكر بعض الأصدقاء نماذج قد تكون مشابهة لمسألة بيع الشعر، كانت سائدة قديما، وهذه أعرفها، مثل أن يرتجل أحدهم مدحا لشخص، أو لطعام أكله، أو لامرأة شاهدها في حفل، وربما يمنح بعض العطايا، وهذا ليس بيعا مباشرا للشعر بقدر ما هو أشياء لحظية، قد تحدث أحيانا.
بالنسبة للسرد، الذي هو الآن ركيزة الإبداع الأكبر، والعصا التي تتوكأ عليها الكتابة، وأنه مطلوب بشدة من دور النشر، هذا أيضا لا يمكن الوثوق به واتخاذه مهنة للعيش، الكاتب هنا يكتب ويشقى لزمن طويل لينجز رواية، هو يعرف تماما أنها لن تعوله، وفقط يكتبها لأنه ابتلي بكتابتها، ولأن في كل زمان ومكان، لا بد من وجود أشخاص ابتلوا بالكتابة.
لنترك الشاعر النيويوركي إذن في ركنه، يضفر القصائد ويتلقى أتعاب كتابتها، ونستسلم لأقدار الشعر، والكتابة عندنا، فلا شيء سيتغير في هذا الشأن، مهما تطور العصر، وتغيرت أشياء كثيرة.