لا شك أن الأحزاب هي عصب الحياة السياسية وشريان الوعي الشعبي، تلعب الدور الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي طالما تزودت بالمقومات الحزبية المتعارف عليها، وامتلكت شعبية حقيقية وقدرة على تحريك الشارع، تكسبها القوة على التأثير في صناعة القرار وتصحيح بوصلة سياسة الحكومة بما يتوافق ويحقق أمال المواطنين. حقيقة لا مراء فيها تقدمت بفضل الأخذ بها بلدان إلى مصاف الدول الديمقراطية و انبرت تسوي ملفاتها العالقة و تعالج قضاياها المزمنة على خلفية محاربة مظاهر التخلف و محو آثاره.
وفي هذا السياق تتصدر الهند بمليارها الزائد على المائة من النسمات و فسيفساء ساكنتها من الأعراق و الألوان و الأديان و المعتقدات و الطوائف و اللغات هذا الفيض من التحولات الحاصل عبر القارات جميعها.
و من حول موريتانيا سجلت بلدان هي الأخرى نفسها كالمغرب و السينغال في ذات سياق هذا التحول و أدركت مؤسساتها الحزبية أدوارها فتمخضت عن نخب أثرت بطول باعها و مستوى وعيها و نضج وطنيتها و عملها الميداني المثمر في التحام و تناغم مع القواعد الشعبية المؤطرة خير تأطير في ملامح نحول بلدانها و استقرارها و دخولها بثقة معترك التطور و الازدهار و التنافس الإيجابي في الحلبة الدولية علميا و صناعيا و سياسيا.
و يدل الهدوء الذي سرعان ما يكتسح الساحة السياسية الموريتانية بعد كل ـ شبه ـ عاصفة و بما لا يقبل كبير جدل على ضعف فاعليها بل و يسلط الضوء كاشفا على تباين ذلك الضعف بحسب أسس قيام الأحزاب و قوة و وهن عقائدها التي تحدد خطابها و تظهر بعض ملامح أوجهها النضالية و مستوى كفاءتها في الميدان.
و يدخل هذا الهدوء المشوب الخلافات المزمنة حول أهم نقاط التباين و الملفات القائمة في مرحلة من الصمت يكاد يبلغ عن سأم أو غياب الجدية و عدم الإيمان و الإصرار، ثم بعد فترة لهذا الصمت المريب تبدأ الأحزاب أو ينبري ـ على الأصح ـ من يديرونها بـ"شخصنه" لا تخفى على أي متتبع يقظ في سباق تحول المواقف و التبرم عن المبادئ ،إن كانت أصلا ثابتة و أصيلة، لكسب مكاسب مادية ذاتية و ضمان حضور في جوقة إعادة توزيع الأوراق.
و إنه الأمر الذي تستوي فيه غالبية الأحزاب المنضوية تحت لواء الأغلبية و الأحزاب المعارضة التي تتسمى بالمحاورة و تلك المنتسبة إلى المعارضة الراديكالية، و هي بمسارها هذا الأحزاب التي يحتم عليها في ظل عدم تأثير أغلبها و ضعف تواجدها الحقيقي اللجُّوءَ إلى عملية اندماج خالصة بالدخول في تحالفات قوية و صحيحة النوايا كي تتفادى السقوط والتفكك و ليضمن لها تأثيرا في المشهد السياسي.
و لما أن أغلب أحزاب فسيفساء الأغلبية، التي تتراوح بين المغمور و الهش و القبلي و الظرفي، يشي بغياب البعد العملي الذي يحمل الوطن في الخطاب و يجسد اعتباره بالعمل الميداني، فإن نصيب أحزاب المعارضة المحاورة من غياب سهم البذل و العطاء لذات الأهداف لا يقل هشاشة بل و بُعدَ تجسيد على أرض الواقع فإن الأحزاب في المعارضة الراديكالية لا تكاد تدرك سرعة ارتدادها أمام حدة أحزاب الأغلبية بعيد شحذ كل همة للتحدي و التصدي و إسماع الصوت البالغ.
و إن لهذا الانكسار السريع الذي سرعان ما يترجمه هدوء و صمت لافتين أسبابٌ ربما يكون من أهمها:
· ضعف الإيمان لدى البعض من زعاماتها بضرورة التضحية و قبول الكلفة المترتبة عليها،
· العجز عن الاستجابة العملية للمطالب النضالية للجماهير التي تلتف حول خطاب أحزابها و تتشبث بمبادئها و فلسفة نضالها،
· عدم القدرة على امتلاك ناصية الحوار في كل الظروف،
· الخوف من المجهول في ظل الرفض و الالتزام بالدفاع عن الثوابت.