عندما تصبح الشهادات مجرد نياشين .. و يكون الأدب مجرد مدح للتحصيل و هجاء للتدمير و يغدو النقد محاباة و خنوعا.. و يتحول الإعلام إلى مزرعة للببغاوات و مقصلة للشرفاء.. و عندما تصبح المقاومة موالا رخيصا يردده كل من هب و دب و سلعة للتحصيل بتزوير الوقائع و تشويه التاريخ و تكرار المحتوى الشفهي العامي المهزوز و الافتراء بمصطنع الأحداث و مختلق الأبطال الوهميين و العجز عن كتابة فصول هذه المقاومة بعد التمحيص و التحقيق و بذل قصي جهد الغربلة و استخدام منهجية التدوين و التوثيق.. و حينما تلبس السياسة ثوب "الحربائية" و التآمر و التملق و التزلف للحصول على التعيينات و الصفقات المشبوهة.. و التجارة احتكارا و استيرادا برصيد البلد من العملة الصعبة و تمييع حدوده و إغراقه برديئ السلع و منتهي صلاحية التاريخ من الأغذية و الأدوية، و صد الباب أمام أي شكل و مستوى من التصنيع و التحويل، و عندما يكون سوء التسيير بطولة و شجاعة،و التزمت و الظلامية و التكفير تدينا...
فاعلم أن البلد ليس بخير و أن أهله قد أصابهم جميعهم ـ فقراء و أغنياء، معارضين و موالين، أميين و أشباه متعلمين ـ جَفافُ العقول و قحطُ القلوب و موتُ الضمائر.. و أن ساعة بزوغ شمس تغيير العقليات آتية لا ريب فيها.
نحن و من بعدنا الطوفان
يكمن كل سر التصنيع السريع في أغلب دول العالم ـ التي تحسنت أوضاع سكانها و دخلت حيز الاستقلالية و التنافس ـ في قوة إرادة رجال الأعمال فيها على خلفية وطنية طافحة و إنسانية لا يخفيها حب التحصيل المشروع المبني على الطموح و الفعل و الاستقامة. و في هذه الدول يعتبر التصنيع معركة و رفع التحديات الاقتصادية لغاية وجود البلد و رفعة الأمة، الأمر الذي دفع لتجمعات و اتحادات أرباب العمل فيها إلى تقاسم عملية التصنيع و تحويل المواد الأولية لبلدانهم حتى انتشرت المصانع في أرجائها و تنوعت و وجد فيها المواطنون فرص العمل و التكوين ة المشاركة في مجهود البناء المشترك و الرفع من مكانة البلد.. و الأكثر مدعاة للإعجاب و الاحترام أن بعض هذه البلدان الصناعية اليوم لم تملك قط مواد خام و لكن إرادة صلبة و ذكاء خارق و وطنية لا تسام عليها شعوبها... و أما رجال أعمال و أغنياء هذه البلاد فلا حس وطني لهم و لا إرادة بناء في ظل الغياب كذلك لأية سياسة تصنيعية أو اقتصادية بالمعنى الأشمل يدعمها تخطيط جيد يرمي إلى إرساء قاعدة صناعية و استغلال رشيد للموارد الطبيعية المتنوعة الوفيرة و الحفاظ عليها... إن هؤلاء جميعهم يعتبرون أن هذه الموارد قد وجدت متاعا رخيصا لهم و يتغنون بحكمة الحمار الذي قال للملأ: "إذا شرب أنا فلتتلاشى البئر".
الأدب ابن الطفرة..
لا يستوي عودُ الأدب إلا في بيئة نقية يغلب عليها صدق النوايا و ثراء العطاء، و إنه كل ما كان مسار التنمية صحيحا كان الأدب ـ بمعناه الواسع الذي يشمل إلى جانب الشعر السرد و المسرح و السينما و الموسيقى و الفنون الجميلة ـ مزدهرا و عطاؤه ثرا، ذلك بأن التنمية المتوازنة للبلدان ترضي النفوس بما تهبها من وسائل الاطمئنان و ظروف راحة البال و أسباب تفتق القرائح و تفجر ينابيع الإبداع في حضن ثلاثية الموهبة، والاكتساب، والأُسلوب.. فالأدب ابن الطفرة. و إنه غير صحيح بالمرة أن أغلب الشعراء و الكتاب و الفنانين كانوا معدمين و متسكعين عند أبواب الأغنياء و الملوك، كما هو مجافي للصواب أن طبع "الصعلكة" يغلب على أكثرهم.. و الحقيقة أن فحول الشعراء (البارودي كان عسكريا) و عظام الكتاب (تولتسوي / الحرب و السلم) و أهل النباهة بَلْزَاك (روائي و إعلامي ) و غيرهم من الفنانين و الموسيقيين ينتمون لفئة أهل الفخر و سمو النفس فيما الكثير من الأمراء و الملوك و الحكماء و العلماء و الأطباء و العسكريين.. و هم بما أوتوا من القدرة على التمييز و الإنارة و بعد النظر و القدرة على التوجيه كانوا الشركاء الأول للحكام و المستشارين في التخطيط و بناء المواقف و تحديد المسارات السياسية و التنموية و العسكرية و الاجتماعية.. و في المقابل كانوا ينالون حظهم من التقدير و التبجيل.. فهل لنا فيمن نعول عليهم و نكب وجوهنا المستفسرة الحائرة في محياهم من مثل هؤلاء هداة يحملون أعباء الرسالة التي قد ينوؤن تحتها أو يثقل عِبؤُها مناكبَهم مدركين أنهم ينبوع نميرٌ للعطاش، وخبز شهيٌّ للجياع، وجمرةٌ متقدة للمقهورين، وألقٌ ساطعٌ للضالّين على طريق الوجود فتأخذ بهم و معهم "التنميةُ المشتهاةُ" مسارا سالكا إلى حيز التصحيح و الخروج من عنق الزجاجة؟
أدب الترف لا أدب التوجيه
على منوال: وَنَاهِدَة ِ الثَّدْيَيْنِ قُلْتُ لَهَا: اتَّكي على الرملِ، من جبانة ٍ لم توسدِ
و لما دنا الإصباح قالت فضحتني ... فقمْ غيرَ مطرودٍ وإن شئتَ فازدد!
أنشد شعراؤنا "المخلصين" في سفر "الفتوة المبتذلة" متجاوزين تصوفهم المعلن و تقمصهم المتقنللعفة و الطهر ما يضاهي بل و أحيانا يفوق شعر الماجن عمر بن أبي ربيعة فقال بعضهم:
لو أن يانيميس لاحظ كشحها و ... ما حول ذاك الكشح من نزهة النفس
لأعلم مسرورا بكل صراحة ... تنازلت عن عرشي و ملكي و عن جنسي
و قال آخر:
فبتنا في ليلة لا مثيل لها **** أعاطيها اللهو حين و تعاطيني
و لما جن الليل و الشيطان ثالثنا **** نعوذ بالله من شر الشياطين
و يقال ثالث من أبناء العلية و المحتد العالي:
تجلاج اعلي هون حد ... فمج جيت لعيال
سكريت عن غير بعد ... ثابت ما يولالُ
و لا يقتصر كسر حواجز اللياقة و ركوب موجة الاستعلاء و الغرور، بمعول الأدب المتجاوِز، على المجون و الإباحية بل و يتعداه إلى استباحة الأعراض و القذف و السب و الشتم في حالة استضعاف المستهدفين حتى يرسخ في العقول و الأذهان ما ورد من هجين الشعر و يصبح سمات عالقة و أوصاف ثابتة يجري التعامل بمقتضى ما تحمله من الاحتقار و علامات الدونية لمن استبيحوا.
و لو تم جمع كل المخرج الأدبي كله لكان هذا الفصل من التعاطي هو الأكثر كما و استقطابا للمولعين و المهتمين بالشعر و حكاته و حفظه و قرضه... و لئن تم البحث عن الإنتاج منه في التوجيه و بناء النفوس المتوازنة و إلى المعارف المحصنة من كل أصناف التخلف لأضنى البحث الجادين فيه و لأدركوا أن حصادهم فيه قليل.