إنهم كثر الذين يعلو شأنهم بعدما يكتبون أسوأ ما تستطيع أن تجود به، كتابا و شعراء و غيرهم، أقلامُهم الحانقة اللاذعة و تنفث أنفاسهم الغاضبة الكارهة من الكلام الأقصى بذاءة الألفاظ، و تم تعيينهم فورا في مناصب عالية قبل أن يجف مداد كلماتهم الحارقة و ينفد حبر تعاويذهم الشيطانية كما يرفعون إلى أعلى درجات التقدير و يحاطون بالعناية و الحضور الإعلامي البارز في كل القطاعات. و لكن أنى لهؤلاء أن يحصلوا على ذلك لولا خلفياتهم القبلية القوية و النافذة بالحضور الطافح في مواطن السلطة و ساحات المال؟ نعم إنهم يُسترضون فورا بعد ما يكشروا عن الأنياب السامة و هم عند ذلك في موقع قوتي الجاه و المال. و أما من كان صادق النوايا اتجاه بلده، يكتب بصدق و يحلل بروح المحب لوطنه و بحرارة التوجيه و إرادة تنظيف السبل أمام عربة التحسن و التطور و بناء دولة القانون العادلة، فإن حظه الإقصاء و تعمد التجاهل و إن كان الذي يقول و يكتب نافذا إلى البصائر المتقدة و مؤذيا للضمائر العفنة و أعداء الوطن الذين يلوثون حاضره و يكبحونه و يسدون أبواب مستقبله بالتآمر و الفساد رغم الأنوف.
ضعف لسان حال الوطن في مبتذل نهج "النخب"
و أنا استمع إلى ردة الفعل الفرنسية على القرار الأرعن للرئيس "ترامب" حول اتفاقيات باريس حول المناخ بلسان الرئيس الشاب ماكرون تأكدت لدي حقيقة الريادة الفرنسية في حقل السياسية و قدرة قادتها على تحديد المواقف المتوازنة إزاء القضايا الدولية الكبرى، كما تأكد لدي أن خيار الفرنسيين ينبني على بعد النظر و صحة تمييز الأصلح لكل مرحلة. لقد استطاع الرئيس الشاب الذي أدلى بكلمة مقتضبة أن يوازن بين قوة تقدير مكانة الولايات المتحدة الكبيرة و احترام خيارها و بين التأكيد على بقاء فرنسا و من على خطها باتجاه تطبيق توصيات قمة باريس حول المناخ... خطابة، حصافة، بعد نظر و توازن هي الصفات العريضة التي ميزت الكلمة الرد على القرار الأمريكي بالانسحاب من اتفاقات باريس... رجعت إلى واقعنا الجاهلي الإدعائي الكئيب فَكِدتُ أصرخ من هول غياب الوطن عن عقولنا و ضمائرنا و عن خطابنا و فعلنا، و صدمت من غياب كذلك مثل هذا الشاب الذي يقود دولة فرنسا و نضج أهلها في تحديد المواقف الصحبة و الحاسمة الداخلية و الخارجية.. ترى أين يتجه هذا البلد في ظل غياب نخبة الحصافة و الفصاحة و صناعة الخطاب و رفع أركان البناء و نحت المواقف الصلبة التي تخدم البلد من قيمته العليا إلى التوازن و الاستمرار و اتباع نهج ضمان البقاء في مصاف الأمم؟
"التبتيب" القطاعي
رغم الصوم البادي عن الشاي المكتبي في كل القطاعات إلا أن أماناتها العامة، و مديرياتها، و استشارياتها و مصالحها ما زالت، في غياب الإنتاجية المنتظرة خلال أوقات الدوام، مسرحا ضخما للإفطار عن الاستقامة، و مختبرا كبيرا لتبادل المصالح الضيقة و رفع الحرج عن خسيسة الوساطة الاقصائية الظالمة و الانتقائية المجحفة و المعطلة لحقوق الذين لا سند لهم أو ظهير. كل القضايا الظالمة و المسائل المجحفة و ذات النفعية المكشوفة هي ديدن كبار و متوسطي الموظفين.. لا تنقطع طيلة أوقات الدوام تسجلها و تمررها مكالماتهم الجريئة لتسوية شؤونهم الخاصة بـ"اتبتيب" الإداري على حساب البائسين و المستضعفين و المخذولين. و تتعدى القضايا التي يخوضون فيها يوميا مسألة تشغيل الأفراد لبعضهم البعض بصيغة التبادل، إلى الصفقات المشبوهة في البيع و الأعمال، إلى رفع المرضى لمستشفيات الخارج، إلى الاكتتاب في المؤسسات العمومية الكبرى، و اللائحة طويلة.. العجيب الغريب أن الأمر ما زال يدعى "اتفكريش". و قد كرست و تفعل هذه الوضعية التي تستفحل أكثر "القبيلية" حتى باتت بضع قبائل و في صدارتها بضع أرستقراطيات "أسرية" و "مالية" تتحكم في الشأن العام و الخاص وَ يَذروا أفرادها الظلم بين العامة و هم يرددون منتشين: نحن و من بعدنا الطوفان. فهل بلغت عن وضع شديد الظلم قائم؟ اللهم فاشهد.
حجب الغرور شمس الحقيقة
ندعي معرفة غرس النخيل و كثرة و تنوع ثماره و تُغرق بيوتنا صَدقات من السعودية و الإمارات و مصر، و أسواقنا إيرادا من الجزائر و تونس تمور غيرنا؟ و هل أنواع تمورنا بحجم و قيمة و كثرة و فوائد تمورهم الغذائية؟ ألم يحولوا واحاتهم إلى جنان خضر و استصلحوا بفعل سياسات رشيدة أراضيها فزرعوا البقول و الحبوب ذرة و زرعا و قمحا و شعيرا و فواكه أصنافا و أذواقا، و شيدوا المصانع و تطوروا و حسنوا النوعيات في مخابر استحدثوها و حولوا إليها التكنولوجيات الحديثة حتى باتوا يقومون بالبحوث المتقدمة في المجال؟
هل نحن حقا كما نقول عن أنفسنا من الألمعية و السبق في كل شيء؟ أم أنهما الغرور و الكسل يحجبان عنا شمس الحقيقة المرة و يرياننا ثوبا كاذبا فوق خرقنا البالية من واقع انجلى و عهد تولى؟
رمضان و شائبة المال العام
في شهر رمضان لا يستوي الفطور الباذخ للقلة المتخمة بالمال العام و فطور الغالبية التي بالكاد يسير أفرادُها أحوالهَم برواتبهم الهزيلة و شح طرق التحصيل لديهم بعدما سَدَّ مسالكهَا التجارُ الجشعون المتعاطون سياسة "موالاة" مراكز القوة و المتغلغلين بأجهزة الدولة بكل الأسماء و الصفات من المتخصصين في شأن الإيراد و التصدير و الجمركة و الأسعار و الضرائب... متى يصوم هؤلاء عن المال العام و يحصلون أجرا خالصا؟
شهر رمضان ملاذ النائمين
لا شك أن عداءنا للعلم برفض التعلم و عجزنا عن البناء و التشييد بنبذ العمل و الانكماش عن بذل الجهد هما اللذان يسلطان الضوء الكاشف على سوء أحوالنا و شدة تأخرنا و تعلقنا بخرافة الألمعية و النبوغ التي تعري خورنا و ضعف واقعنا و سوء حالنا في عالم يتغير من حولنا. لا عاصمتنا تشبه في الحركة الاعتيادية العواصمَ من حولنا من حيث النظام و النظافة و الانسيابية، و لا مواطنوها يشبهون غيرهم في حسن السلوك المدني و احترام النظام و القانون، و لا حركة البناء مصحوبة بالنمو المتوازن و قيام البنى التحتية الملائمة. و أما ثقافة العمل الضعيفة أصلا فشبه غائبة في شهر رمضان الذي هو، و إن غلبنا فيه النوم و الاسترخاء، ليس سوى أكثر الشهور تحفيزا إلى المجهود المادي البناء و العطاء الفكري الرصين و التأملي العميق لإيجاد أنجع حلول المشاكل النفسية و المادية بعدما أخذت تراكماتها كل حيز الشهور التي سبقته.