إذا كانت غريزة البقاء تجعل الطيور تحرص كل الحرص على أن لا تشيد عشها إلا في مكان آمن، يحمي أفراخها من الأذى، ويوفر لها أفضل شروط السلامة المتاحة.. تجاريها في نهجها ذاك كائنات كثيرة أخرى.
إذا كان هذا هو واقع مخلوقات غير عاقلة، تعيش على الغريزة ورد الفعل، فكيف بالإنسان، الذي رزق العقل والتدبر والفهم والتعليل والتحليل والاستنتاج؟
كثيرا ما انتابني شعور بغرابة واقعنا نحن الموريتانيين، انطلاقا من هذه الخلفية، وبالعجز عن إيجاد تفسير لما يجري في بلدنا الواعد والقابل لكل الاحتمالات في نفس الوقت.
شعوب كنا أمامها، تجاوزتنا في الترتيب وصارت تنافس الكبار على المقدمة وأخرى تسير في الطريق الصحيح، لأنها أخذت بأسباب النهوض وتاقت إلى أن تعيش حياة كريمة، وآمنت بوطن، هو عشها وفضاؤها، الذي تعاقبت فيه أجيالها وعلى أديمه تمرح وتسرح فلذات أكبادها.
أما في موريتانيا، فرغم أن الجيش في سياق مسار واقع المستعمَرات السابقة هو المؤهل المتفرد ليكون "بوتقةَ الأمّة": حيث سبقت الدولةُ الأمّةَ، وحيث الانسجامُ الوطنيُّ كان في طور التشكّل، وحيث تُهدِّد عواملُ التجاذب ــــ التي غالبًا ما تُحَدَّدُ في تجذّر التضامنات "البدائيّة" ذاتِ الطابع القبليّ أو الإثنيّ أو الجهويّ ــــ بناءَ الدولة واستمراريّتَها.. فهو أيضا من جاء ب"تحوّلات في طبيعة الإدارة "فهِمَها" الرأيُ العامّ، الذي يفضّل تضامناتِ القرابة (ولو خرجتْ عن القانون) على مصالحَ ضبابيّةٍ لجمهوريّةٍ بدأ نزعُ جلدها سريعًا... وبتوجيهٍ من أعلى السلطات العموميّة"- كما يؤكد الباحث: عبد الودود ولد الشيخ.
لذا سار البلد باتجاه معاكس أبعدنا بسرعة البرق عن أي توجه يوصلنا إلى وضع مقبول..الإنسان عندنا لا يشكل غاية ولا هو وسيلة.. حولنا مشاركتنا السياسية إلى جوقة للتصفيق والنهيق، "خدمة" لمن يجلس على الكرسي.. وقبلنا طواعية بملكية الحاكم الخصوصية لرقابنا ولثرواتنا وحاضرنا ومستقبلنا، وعند ما يركله آخر ويزيحه عن الكرسي، نتسابق إلى توجيه الشتائم واللعنات إليه، بعد أن ظل محط إعجابنا الجماعي،ومصدر إلهامنا الأوحد وباعث أحلامنا الوردية.. التفاتة منه تدفعنا للرقص الجماعي، وإيماءة منه، تنسينا الضوابط الشرعية والأخلاقية.. نتذلل لسدنته ونضفي عليه صفات لا يتسم بها البشر.. نمجده جهرا، ونلعنه في الغالب سرا، نمني النفس بنواله أو بزواله، نشاهد ظلمه ونعاين عجزه ولا وطنيته وهواننا عليه.. ورغم ذلك نبالغ في إطرائه والتزلف إليه.
التعليم الجيد هو حكر على أبنائه وحاشيته.. وثروات البلاد هي من نصيبه وحاضرنا هو من يرسمه.. أما مستقبلنا ومستقبل فلذات أكبادنا، فهو متروك للبيع والشراء، نبيعه جماعيا بثمن بخس في سوق التصفيق والتزلف والبحث عن السلامة الشخصية.. نقف طويلا في حر الصيف، لننعم بملامسة هراوات حراس "السيد الرئيس"، ولا نكترث عند ما ندفع بعنف بسواعدهم المفتولة.. غايتنا هي "الفوز" بمشاهدته وسط الزحام والغبار والضجيج.. باسمه نهتف وله ننتظر في حر الشمس.. فقط ليتمتع هو بمشاهدة شريط صور وجوهنا العاكسة لواقع هو من صنعه أو شارك فيه: (فسيفساء تعكس البون الشاسع بين ساكنة شواطئ المحيط والقابعين في الداخل).. كل "الإنجازات" هي بفعل توجيهاته.. ولا واردة ولا شاردة، إلا وفقا لأوامره.. هو المقدس ورجاله سيئون وهو الضروري وحاشيته حثالة لا يعتد بها- رغم أنه هو من اصطفاها ويستحيل أن يكون من غير طينتها ولا تسير على شاكلته.
مداخيلنا تتآكل وتتجه نحو الصفرية.. وغذاؤنا- دون استثناء- يضعنا في صدارة النماذج الأكثر سوءا عند التصنيف الغذائي.. دواؤنا ينخره التزوير ومرافقنا العمومية مخصخصة لصالح خاصة الخاصة والفتات ملك خالص لمن يديرها.. ورغم ذلك نصفق ونمعن في التصفيق.
مأساتنا أننا أصبحنا نؤمن بأن الحريّة المطلقة لا تكون إلا لفردٍ واحد، هو شخص الرئيس، وأن العبوديّة التامّة للجميع، هي الجزء الضروري المكمل للطرف الآخر من المعادلة السياسية.. ليس لنا الحق- بالحسنى- في ثروات بلدنا، وليس مقبولا في مفردات حياتنا اليومية أن نرفض ظلم وتحايل الموظف في المرفق العمومي، لذا نواجه جماعيا مسلكياته المشينة بالتملق والارتشاء والوساطة ذات النفع المتبادل.. أوامره ونواهيه ومزاجه في نظرنا جميعا، هي انعكاس أصيل لروح القانون.
أبناء العامة يحرمون من الفوز في المسابقات وهم في الصدارة، ويقصون من الوظائف والتعيينات، حتى ولو كانوا هم الأكفأ.. ويحرمون من التمتع بمزايا الانتماء لوطن، هم الأكثر استعدادا للدفاع عنه والتضحية بالمهج صونا له.
غالبية المواطنين، هم من يدفع فاتورة الصحة والتعليم والأمن وحتى النظافة من جيوبهم.. وسائل نقلنا، عبارة عن علب سردين نكدس فيها مواطنينا بالقهر والإكراه.. طرقنا مصيدة للموت، تقتصر رقابتها على جباية المائتين والألف والألفين.. أسواقنا مكدسة بالمعلبات والمواد الغذائية والبضائع منتهية الصلاحية: المسرطنة والمدمرة بالمجمل للصحة، والتي تعرض نهارا جهارا عبر مكبرات الصوت في الأسواق والميادين العامة.. شارع السحرة ينافس في جمهوره ومكانه الوسطي إحدى أقدم مؤسساتنا الصحية بالعاصمة.
نعي جيدا أن علينا واجبات.. لكن في الواقع ليس لنا حقوقا، والعكس صحيح بالنسبة لخاصة الخاصة.. ساكنة البلد يصدمك محياها ويعري واقعها زيف ادعاءات سلطتنا، ويشكل مستواها المعيشي في المجمل إدانة للجميع.. شوارعنا ومرافقنا العمومية، تقزز الزائر وتمرض الساكنة، تصلح لأن تهوي بنا إلى موقع (الدولة الأكثر شوارع عاصمتها قمامة وأكثرها انتشارا أمام بيوتها وفي طرقاتها، وهي الأكثر باعوضا).
ما ذا ربحنا من هذه المهزلة؟
ازدادت الشحوم في خواصر قلة من النساء والرجال، جهلوا قواعد التغذية الصحية، وجدوا أنفسهم فجأة في المقدمة: صفوة أغنياء دون جهد أو كفاءة، قذفت بهم الصدف، لكونهم من نسل فلان أو أقارب لنافذ أو أصهارا له.
غابت عن قاموسنا مفاهيم: الوطن والمصلحة العامة والعدالة والقانون والصالح العام والكفاءة والتفوق والمستقبل والتخطيط العلمي.. لتحل محلها مفاهيم، مثل: الأنا والنفوذ وحجم الثروة والوساطة والجاه والقرابة والعرق والشريحة والفئة والقبيلة والجهة.. لذا لبس الصراع على "الفتات" لبوس الفئة والعرق والشريحة والجهة والفخذ والعائلة..
المغفلون منا أقنعوا بأن جميع معضلاتهم لا تكمن في الفساد المستشري ولا في الحكامة غير الرشيدة، وإنما في شركائهم في الوطن وفي المعاناة وفي المصير.. ليصبح الهدم بديلا عن البناء، والاقتتال أساسا للتعايش والانصياع للأجنبي بديلا عن الولاء للوطن.
لقد غاب الأمل وحل محله التناحر اللفظي والتهديد بالويل والثبور وعواقب الأمور- لمن؟.. لكل من ولدته أمه بلون لا يروق لزيد أو عمر.. أو كان من قبيلة لا تنتمي إلى هذا الجد أو ذاك.
فلا إنسانية المواطن مهمة ولا شراكته في الوطن والدين بشافع له، .. تحولت المكيدة التي كانت تحاك في الغرف المظلمة إلى موضوع أثير للنقاش في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي وصار الممنوع مباحا والمحظور متاحا ومقبولا..الكل يسير في منحدر، يرقص فيه على أنغام لا يهتم بمن يعزفها.. غير مكترث بأنه سيكون أعجز الناس عن إخماد نار فتنة، قد يكون هو أكثر من يكتوي بها.
الشرائح والأقليات، التي كانت في السابق هي الأكثر تضررا من واقع "السيبة" وإفرازاتها، تشكل اليوم أكبر معول لهدم الدولة والتشهير بها، وتحميلها جميع المظالم المتخيلة والمفترضة.. خيار سيضعها ضمن زمن دائري، لا أمل لها في الخروج منه.
قبل أن يسبق السيف العذل
لاشك أن هناك من عايش مرحلة "السيبة" كليا أو جزئيا، وتجرع مراراتها، (سواء أكان غالبا أو مغلوبا)، سيؤكد - إن هو سئل- أن "جنة" الحاضر أفضل مليون مرة من أجمل تصنيفات تلك المرحلة.. فلو كانت مراحل ما قبل الدولة أفضل، لتسابقت الشعوب إليها.. لذا نجدها لا تفاخر ولا تعتز اليوم إلا بالوطن الجامع الغني والمتنوع إثنيا وجغرافيا.. ولا تسعى إلا من أجل قيام الدولة الوطنية العادلة.. إنها توجهات عمت اليوم البشرية كافة.
فكيف يقبل الموريتانيون أن يستبدلوا أفق الدولة الأرحب وفرصها في توفير الأمن وتمدرس الأبناء وتوظيفهم وتحسين شروط الحياة، بالتناحر وتدمير الدولة الجامعة، التي تحدث أحد الساسة عن عجزنا تاريخيا عن تحقيقها قبل الآن؟
فاستغلال واقع الفقراء ومظالم المهمشين وحاجتهم الماسة للتمدرس والصحة وتحسين شروط الحياة، هو سعي بالغ الخطورة، ذلك أن تحويلها إلى سلعة تباع بأبخس الإثمان، يستأثر الانتهازيون ب"ريعها"، فيقبضون الثمن، ولا يهمهم بعد ذلك هل " تصوملت" البلاد.. أو ازداد الفقراء فيها جوعا وبؤسا، أو تفاقمت ظروفهم المعيشة نحو الأسوأ.
رغم واقعنا الحالي المر والمرفوض..لا زال في بلدنا ناس يمنون النفس بأن كل شيء لا زال على ما يرام، غير مدركين للتحول المتسارع والتدافع المحموم باتجاه المنحدر: نذر الفتنة تطل برأسها المقيت ومشعلوا نارها يتحولون بين عشية وضحاها إلى أبطال يمجدون في المحافل الدولية المشبوهة، تتنافس على استضافتهم المنابر الإعلامية المحلية، ونستقبلهم نحن بالهدايا والزغاريد..
فلا صوت يعلو عندنا فوق صوت التوتير والتشهير الجماعي، وصار كل طرف يتهم جاره بأنه هو وحده المسؤول عن كل ما يعكر مزاجه، أو يؤثر على معيشته ومستوى دخله وحتى تغيير درجة الحرارة في محيطه.
التدافع محموم، والمنحدر صعب والمتربصون كثر.. ورغم ذلك فالحارس يتفرج ويستمتع بالمشهد.. يشد من أزر هذا ويغمز من قناة ذاك ويسخر من الكل.. لا يبالي بما قد تصل إليه الأمور.. مشغولا بعد ريعه من المشهد وبنسب أرباحه المحصلة وبتصاميم ناطحات سحابه الحالية وتلك المبرمجة.
فموريتانيا اليوم في وضع لا تحسد عليه،
1- فإما أن تستمر في المنحدر(لا قدر الله)، ليعود الاسم إلى رفوف التاريخ القديم لمنطقة البحر الأبيض المتوسط وتعود "السيبة" إلى رمال متحركة لم تألف غيرها.. لكن هذه المرة بسلاح أفتك وبوسائل أكثر تطورا وتدميرا.. وعندها ستتحكم في البلاد العصابات، ويصبح "سادتها" أمراء للحرب وتتحول البلاد إلى ساحة أثيرة للإرهاب وتجارة المخدرات.
2- وإما أن نغير ما بأنفسنا لتتغير نوعية من يحكمنا، فلا زالت إمكانية التدارك ممكنة والتدهور قابل للتوقيف والفرملة.
فلم تعد الثنائيات المتناقضة قابلة للتعايش:
- الرئيس ذاهب عن السلطة 2019 وباق فيها في نفس الوقت!
- الشعب يؤيد الرئيس، ويمقته في نفس الوقت!
- الكل يرى نفسه وطنيا و"مناضلا"، ويشمئز من دفع الثمن، أو المجاهرة بقول الحق!
- المنادون بالتحرر والحرية والإصلاح والديمقراطية.. هم مطية الفساد وأداته الضاربة في نفس الوقت!
- اصطفاء أصحاب "الولاء" للحاكم أفضل لبناء الوطن من الاعتماد على الكفاءة!
- ما يقوله أو يفعله الرئيس هو عين الصواب..لكنه يصبح جرما، يتبر أمنه الجميع، لحظة زوال ملكه!
- الظلم أساس للملك!.. لكن البلاد- رغم ذلك- هي بألف خير!
- التعايش بين نهب الثروة الوطنية.. والحديث عن تنمية واعدة في نفس الوقت!
- سيادة الصفقات المشبوهة.. مع المفاخرة بالشفافية ومحاربة الفساد!
- الاعتماد في التنمية على تعليم يعيش رجاله في الحضيض!
اللائحة طويلة والتركة صعبة والواقع مقلق.. لكن الخروج من المستنقع لا زال ممكنا ولا زال البلد بألف خير- إن هو وجد السواعد القوية والقناعات الراسخة والسياسات المبنية على التخطيط العلمي والواقعية السياسية والتوزيع العادل للثروة، وفقا للمواطنة المتساوية في الفرص.. وليس الانتماء القبلي أو الجهوي أو الشرائحي أو العرقي.. حتى لا نخرب بيوتنا بأيدينا وأيدي الفاسدين والمفسدين من بني جلدتنا والحاملين لهوية وطننا.
إنه نداء ما قبل اللحظة الأخيرة.. فرفقا بهذا الوطن.. الذي يواجه تحديات جدية، توجب علينا جميعا أن نستيقظ قبل فوات الأوان.. فلن يحك جلدنا مثل ظفرنا، ولن نجد عبر المعمورة بديلا يحنوا علينا غير هذه الرمال المتحركة.. كما أن العيش في بيت من قصدير داخل الوطن، هو أفضل من التسكع أمام موائد اللئام والتيه عبر منعرجات السياسة الدولية، التي لا موقع فيها إلا للحيتان الكبيرة..