"إنّ الثّقافةَ تنمو مع النّمو الحضاريّ للأُمم، ولكنها قد تتراجع مع مرور الوقت؛ بسبب عدم الاهتمام الكافيّ بها ممّا يُؤدّي إلى غيابِ الهوية الثقافيّة الخاصة بالعديدِ من الشّعوب"
إذا كانت المحاضرة التي ألقاها الدكتور محمدو ولد احظانا بعنوان "إشكالات العمل الثقافي في موريتانيا" رفيعة المستوى سبرت بمنهجية الباحث جوانب الموضوع. و إذا كانت المداخلات و التعقيبات التي تلتها أثرت بقوة مضامينها المتشعبة، فإن "الموضوع" الذي تجاوزه بصفة ما واقع الثقافة في تجلياته الماثلة كان ليحجب عن إدراك و وعي ـ يتحلى بهما المحاضر بجدارة و المنظم و الذي هو على دراية بمتطلبات الساحة ـ عما هو أبلغ موضوعية و أهمية و أكثر إلحاحا في طلب الإجابة للمقتضيات الراهنة التي تمليها إكراهات التعثر، اضطراب المنعرج و إشكالات العولمة.
و لأن الدكتور ولد اظانا آثر الخوض في تعريف الثقافة بتأويلات متعددة لرفع الالتباس و الخلط فإنه وقع في بؤرة إصرار مثقفي هذه البلاد من المتعلمين على الرفض الضمني لتجاوز هذه العتبة التي تحول دون رؤية المضامين و التجليات و الأوجه المتعددة و المختلفة لهل (الثقافة) في شمولية مفهومها الذي حجبته النزعة الاستعلائية، الأمر الذي يتسبب بـ"سيزيفية" الجدل حولها في السباحة ضد تيار تجاوز انحسياريتها على كيف المقتضب أو التفسير نمطي لها في عصر أصبحت فيه اقتصادا و صناعة لها أسواقها و بورصات و مهرجانات و خشباتها و منصاتها و مواسمها و مركباتها و سياساتها و دبلوماسياتها.
و لأنه قدر للمحاضر أن يميط بجدارة اللثام عن حضور عقلية متجاوزة تحشر حشرا الثقافة و جميع مخرجاتها بالمفهوم النخبوي الضيق (الشعر و السرد الأدبي و النقد...) و العام المنفتح على كل الممارسات التعبيرية (المسرح، السينما، الفنون التشكيلية، الموسيقى، الرقص، الفلكلور...) للشعب بكافة مكوناته في زاوية المجاملة و النكران و تحاصرها بالممنوعات و الذرائع الواهية من كهوف الفكر السقيم في عصر التنوير، فإنه لم يقدم وصفة علاج هذا الميزان المتخلف المختل الذي يؤول إليه كل جمود الحراك الثقافي الارتكاسي في الأصل و المعطل في الواقع تجره عربة أمراض تخلف نفسي عن ملامسة ميزة الاختلاف و التفاضل و التكامل بلا عقد من الآخر أو إقصائه؛ أمراض قلوب من حقب ظلامية ما قبل عصر "السيبة" اللاحقة التي ما زالت تطوق المجتمع و الدولة و في فرادتها الثقافة المخنوقة.
و لأن الثّقافة تعبرُ عموماً عن الخصائص الحضاريّة والفكريّة التي تتميّز بها أمّة ما فقد كان حري بنا أن قد لاحظنا منذ أمد و من هنا بأنّ جميعَ الثّقافات المُختلفة تلتقي مع بعضها البعض في كثيرٍ من الأمور الرئيسيّة و نكون قد أدركنا مع ثلاثة أجيال ـ درست و نهلت من عديد أعرق جامعات دول العالم المتحضر و تعاقبت وصية على الثقافة ـ أن الاختلافَ بين الثّقافات و لو ضمن حيز واحد قد يُؤدّي في النّهايةِ إلى تحفيزِ اللّقاء بينها، عن طريق تعزيز دور النّقاط الثقافيّة المُشتركة بين المكونات التي تتفاعلُ مع بعضها، فيؤدّي هذا التّفاعلُ إلى ظهورِ تأثيراتٍ جُزئيّة أو كليّة في طبيعة هذه الثّقافات وفي خصائصها. و بالطبع فإن المحاضر الذي ذكر تجربته الفريدة في البحث عن كل نقاط التلاقي لمكونات مجتمعنا العربي و الزنجي لم يفوت الوقوف عند هذه النقطة التي ما زالت مع ذلك تثير إشكال ما إذا كنا بلدا بثقافة واحدة أو بثقافات متعددة الأمر الذي يعتبر لدى الكثيرين إشارة بالغة الوضوح إلى انفلات ضبط إشكال الثقافة و ضعف بنية أطرها الحاضنة على:
· المستوى الرسم
و غياب فاعليتها و ألقها على:
· المستوى الشعبي
و ميوعتها:
· في دائرة المجتمع المدني
و بعدها عن اهتمامات:
· عالم المال و الاقتصاد
و ضعف الإعتناء بها:
· في كواليس السياسة
و مهما يكن فإن الثقافة على شمولية أوجهها المتعددة هي دائما و بالدرجة الأولى شأن أهل المواقع المتقدمة فيها الذين هم المؤهلون الأول بمعارفهم الغزيرة و مهاراتهم الاستنباطية و طاقاتهم الإنتاجية لتفعيلها و دفع عجلتها إلى الأمام دائما و استثمارها لصالح مسار الشعب إلى آفاق التميز و العطاء و الرقي و رهافة الحس.
و لكن هذه الركيزة الجوهرية في عدة و عتاد بناء الدولة السوية تعاني في موريتانيا من محنة ضعف الاصطلاح و غياب الدلالة، الأمر الذي أوقعها في براثن الجمود و ضعف المخرج على خلفية غياب الإبداع، و التخلف عن الركب ألأممي. و بالطبع فإن حالة الضياع هذه تظهر بارزة في تجليات افتقار الساحة إلى المنتج الثقافي السمين الذي يكشف عم وجه صبوح و معالم إبداع متنوعة بتنوع أوجه الثقافة غلى شمولية تعريفها من الشعر و الآداب الأخرى إلى فنون المسرح و السيمنا و الموسيقى إلى الفلكلور و العادات المنتجة لأنماط السلوك العالية و القيم المثلى التي تصنع المجتمعات الراقية المتوازنة.
فهل نتجاوز في القرن الواحد و العشرين هذا الإشكال الذي لم يعد مطروحا في القارات الخمس أو الست و نبني صرحا ثقافيا عاليا يحفظ خصوصياتنا و يعبر عن ذاتنا و هويتنا و يفتح لنا الباب على على مصراعيه على التبادل و التلاقح الإيجابيين المثمرين على الثقافات من حولنا؟.