لا يختلف اثنان على أهمية الترجمة من لغة إلى أخرى، لنقل العلوم والمعارف من اللغة المترجم منها "المصدر" إلى اللغة المترجم إليها "الهدف".
ولو عدنا قليلا إلى التاريخ لوجدنا أنّ ترجمة الكتب اليونانية إلى اللغة العربية، في مجالات الطب والرياضيات والفلك، وغيرها، كان لها أثر محمود في نهضة العرب والمسلمين في أواخر العصر الأموي وجزء كبير من العصر العباسي (وقد ازدهرت في عهد المأمون بصفة خاصة).
وفي فترة لاحقة، استفاد الأوروبيون في نهضتهم من خلال ترجمة أعمال ابن سينا والخوارزمي وجابر بن حيان وابن الهيثم والزهراوي، وغيرهم، إلى اللاتينية التي كانت لغة العِلم والكنيسة في ذلك الوقت.
بدأت هذه الترجمات في القرن الثاني عشر الميلاديّ واستمرت إلى القرن الثامن عشر.
وحتى لا نخصص حيزا كبيرا للكلام عن التاريخ، سنكتفي بالإشارة إلى نَمُوذج واحد (اليابان) من سياسات بعض الدول الأجنبية في تعاملها مع موضوع الترجمة، وكيف تسير الأمور في عالمنا العربي (السعودية نَمُوذَجًا).
سبق أن عُقِدت ندوة بالمملكة العربية السعودية، نُشِرَ جانبٌ من أعمالها في العدد 14589 من صحيفة الرياض بتاريخ 29 جمادى الأولى 1429ه-3 يونيو 2008م.
جاء في مداولات الأساتذة والخبراء المشاركين في الندوة أنّ اليابان-على سبيل المثال-تترجم ثلاثين (30) مليون صفحة خلال عام واحد، وقد ترجمت السعودية كتابيْن وخمسمائة (502) خلال ستين (60) عامًا !
اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، نرى أنّ الدول المتقدمة تعتمد ضمن سياساتها اللغوية ترجمة العلوم والمعارف من لغات الدول التي سبقتها في هذه المجالات إلى لغاتها الوطنية التي تستخدمها-دون غيرها-في التدريس وفي الإدارة وفي سائر المرافق الحيوية، مع الاهتمام بترجمة لغاتها إلى بعض اللغات الحية لنشر لغاتها خارج حدودها، والتعريف بتراثها وثقافتها.
وتزامنا مع حلول أول مارس الذي نحتفي فيه سنويًّا باللغة العربية، يطيب لي أن أطلب من المعنيين والمهتمين في الجمهورية الإسلامية الموريتانية أن يعملوا على تأسيس "المركز الوطني للترجمة"، في أقرب وقت ممكن.
وحبذا لو قامت الدول العربية الأخرى بالشيء نفسه.
ولعل الزملاء في الرابطة المغاربية للدفاع عن اللغة العربية يغتنمون هذه الفرصة (الاحتفال بيوم اللغة العربية) ويصدرون توصية بهذا الخصوص.
ولاشك في أنّ الترجمة، من اللغة العربية وإليها، تدخل في صميم خدمة اللغة العربية والنهوض بها وتنميتها ونشرها عبر العالم.
أشير بهذا الخصوص إلى أنني، في إطار الجهود الفردية، أنشر إلكترونيا-منذ سنة-سلسلة حلقات بعنوان: دليل المترجم، راجيا ان تكون نواة لمعجم (عربيّ فرنسيّ) تكون فيه إضافات مفيدة إلى محتويات المعجَمات الموجودة في الساحة (عدد الحلقات المنشورة حتى فبراير 2017م: 129 حلقة، تتضمن: 1281 مدخلا).
من مهام المركز المقترح تأسيسه، على سبيل المثال لا الحصر:
1-الإشراف على ترجمة المقررات الدراسية (الجامعية بصفة خاصة) من الفرنسية خاصة إلى العربية.
2-ترجمة بعض الكتب العلمية والمراجع ذات الصلة بمجالات التخصص الموجودة بالجامعات والمعاهد ومراكز البحث.
3-التنسيق مع الجهات المعنية، من أجل إدخال المصطلحات العربية الموحَّدة في المقررات الدراسية (في مستوى التعليم الابتدائيّ والثانويّ والجامعيّ).
4-دعم مصالح الترجمة الموجودة ببعض الوزارات.
يشار إلى أنّ المركز العربي للتعريب والتأليف والترجمة والنشر بدمشق، التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، يمكن أن يضع تجربته- في مجال الترجمة- تحت تصرف المركز المأمول تأسيسه.
يضاف إلى ذلك أنّ مكتب تنسيق التعريب بالرباط، التابع للمنظمة نفسِها، يمكن أن يدعم المركز-عن طريق الإهداء-بنسخ من المعاجم الصادرة عنه (50 معجما في مختلِف الحقول المعرفية).
أشير، في الختام، إلى أنني سبق أن وجهتُ رسالة مفتوحة إلى فخامة رئيس الجمهورية، ألتمس منه العمل على تأسيس "مجمع اللغة العربية الموريتاني". مع العِلم أنّ موريتانيا هي الدولة المغاربية الوحيدة التي لم تقم بعدُ بخطوة في هذا الاتجاه.
إنّ لغتنا العربية الجميلة (لغة القرآن الكريم، لغة العِلم والمعرفة، ولغة المستقبَا بإذن الله)، أمانة في أعناقنا جميعا، وفي خدمتها وتنميتها ونشرها فليتنافس المتنافسون.
والله ولي التوفيق.
إسلمو ولد سيدي أحمد كاتب وخبير لغوي وباحث في مجال الدراسات المعجمية والمصطلحية