
نعيش في موريتانيا اليوم صراعا جديدا غير معلن بين خصمين غير متكافئين: التفاهة التي بدأت تكسب المعركة، وتحتل مواقع مؤثرة في صناعة الرأي العام، والجدية التي توشك أن تُهزم وتستسلم، ما لم تُدرك نخبها خطورة الموقف، فَتُعِدَّ أساليب جديدة لإدارة الصراع، واستعادة ما فُقد من مواقع استراتيجية.هذا الصراع ليس صراعا ثانويا ولا عابرا، بل هو صراع مصيري سيحدد مستقبل بلادنا، وهو ما يفرض على النخب الجادة أن تتحرك وفق خطة واضحة لمقاومة تيار التفاهة الجارف.
من الصراعات التقليدية إلى صراع جديدعاشت النخب الموريتانية خلال العقود الماضية - كغيرها من النخب - صراعات تقليدية، فعلى المستوى الإيديولوجي، عاشت صراعا بين الكادحين والناصريين والبعثيين والإسلاميين، وسياسيا عاشت صراعا بين الأغلبية والمعارضة، واجتماعيا عرفت صراعات بين الأعراق والقبائل والجهات، وصراعات أخرى في مرحلة لاحقة بين العمال وأرباب العمل.اليوم لم تعد هذه الصراعات التقليدية هي الأهم، ولم يعد أصحابها يمتلكون القدرة على توجيه الرأي العام والتأثير فيه.
فقد سحب التافهون والسطحيون البساط من تحت أقدامهم، وأصبحوا هم "قادة الرأي" الذين يوجهون المجتمع، ويطلقون على أنفسهم - وبكل جرأة - صفة "المؤثرين"، وكأن التأثير في المجتمع أصبح حكرا خاصا بهم دون غيرهم.
كيف هيمنت التفاهة؟
لقد تبدلت ساحات الصراع، فأصبحت معارك الرأي العام تُدار اليوم من منصات التواصل الاجتماعي، بشكل أساسي، حيث تتحكم الخوارزميات في توجيه الاهتمام، وهي خوارزميات تعمل لصالح السطحية، وعلى خلق مجتمع استهلاكي مغيب عن مشاكله الحقيقية وقضاياه الجوهرية.
فبدل أن يُسمع صوت العقل والحكمة، أصبح الصوت الأعلى هو صوت الضجيج والتفاهة، ولم تعد قيمة الشخص تُقاس برجاحة عقله، أو صدق موقفه، أو سمو هدفه، بل بعدد الإعجابات والمشاهدات التي تحصدها سخافاته.وإذا ما أحكمت التفاهة سيطرتها في بلدنا، فلن ينفع يومئذ صدق المثقف، ولا إخلاص المناضل، ولا نضج السياسي، ولا عمق تحليل الكاتب الصحفي، وسيجد الجميع أنفسهم على قارعة الطريق، خارج دائرة الفعل والتأثير.
معالم دولة التفاهة والتافهينمن أبرز العلامات الكبرى على اقتراب "قيام دولة التافهين" في بلادنا، أن رجال الأعمال أصبحوا يطاردون اليوم السطحيين لتسويق منتجاتهم وخدماتهم، وأن السياسيين وكبار الموظفين أصبحوا يلهثون خلف التافهين لتلميعهم بعد فشلهم في أداء مهامهم والقيام بأدوارهم.
ومن تلك العلامات الكبرى أن الناس يتناقلون سخافاتهم في الصالونات ووسائل التواصل الاجتماعي.
وفي المقابل، وهذه أيضا من العلامات الكبرى لقرب قيام دولة التافهين أن السياسي الجاد إن وُجد، والنقابي المخلص، والمثقف العضوي، أصبحوا كلهم خارج دائرة الاهتمام، ويُنظر إليهم من طرف المجتمع على أنهم ثقلاء مملين يعيشون خارج العصر.
إن الخطر لا يكمن في وجود أشخاص تافهين - فهذا أمر طبيعي في كل مجتمع - بل يكمن في أن تتحول التفاهة إلى نظام متكامل يتحكم في المجتمع، ويوجه الرأي العام، ويؤثر في السياسات العامة، في ظل استقالة النخب الجادة، وقبولها بالإنزواء والجلوس على مقاعد التفرج.
جبهة الجدية وتحمل المسؤولية
إن الصراع لم يعد محصورا اليوم في معارضة وموالاة يعيشان توازنا غريبا في الضعف منذ سنوات، ولا في إيديولوجيات تحتضر في مجموعها منذ زمن، ولا حتى في صراع أجيال بين جيل قديم يرفض التقاعد، وجليل جديد يعتقد أن دوره في تحمل المسؤولية قد حان. إن الصراع الأهم لم يعد محصورا في تلك الصراعات التقليدية، بل أصبح الصراع الأهم، هو الصراع بين التفاهة والجدية، ونتيجة هذا الصراع هي التي ستحدد حاضر، ومستقبل البلاد.للتفاهة أشكال ومظاهر متعددة، فهي قد تتجسد في سياسي شعبوي بخطاب قبلي أو شرائحي، أو في مثقف ضعيف الإرادة يُغَيِّره المجتمع بدلا من أن يُحاول هو أن يُغَيِّر المجتمع، أو في صحفي يلهث خلف التافهين، ويتعامل معهم على أساس أنهم قادة رأي يستحقون الإعجاب والتقدير.
أما جبهة الجدية فتضم كل سياسي وطني، ومثقف ملتزم، وصحفي ومدون لا يغريهم البريق الزائف للتفاهة، ولا يبحثون عن التفاعل على حساب المضمون.لقد صار من الضروري أن تدرك النخب الجادة أن عنوان الصراع قد تغيّر، وأن النضال الحقيقي اليوم هو ضد تتفيه المجتمع وتسطيحه، وأن الشجاعة الحقيقية هي في الوقوف بثبات أمام سيل التفاهة الجارف.ما العمل؟على النخب الجادة أن تتعلم أدوات العصر بدل رفضها، وأن تتقن لغة التواصل المؤثرة دون التخلي عن العمق. كما يجب أن تدرك أن الصمت أو الانزواء ليس حيادا، بل هو خدمة للتفاهة.
وعليها أن تتوحد - مهما اختلفت مواقعها السياسية واهتماماتها
- لأن خطر التفاهة أكبر من أي خلاف أو صراعي داخلي، فالتفاهة عندما تتحكم، فإن كل جاد سيخسر بغض النظر عن موقفه السياسي، وعن مجال اهتمامه.وفي انتظار أن تتوحد النخب الجادة، فيمكن لكل شخص جاد، أن يسهم بشكل فردي في مواجهة التفاهة، وذلك من خلال خطوات عملية، لعل من أبرزها:
1- تجاهل المحتوى التافه، وعدم التفاعل معه كليا، فحتى الانتقاد والتفاعل السلبي معه سيزيده انتشارا.
2 - عدم متابعة "نجوم التفاهة" على وسائل التواصل الاجتماعي، وإلغاء متابعتهم لمن كان يتابعهم.
3 - مقاطعة السلع والخدمات التي تُسوَّق عبر التافهين.
4 - بذل كل ما هو متاح من جهد لتصحيح الذائقة المجتمعية المنحرفة بفعل هيمنة التفاهة والسطحية.
ختاماإننا أمام صراع مصيري، فإما أن تنتصر الجدية فيستعيد المجتمع ذائقته الجمعية السليمة، أو تنتصر التفاهة فيتحول البلد إلى خشبة مسرح عبثي كبير، يصفق فيه الجمهور للتفاهة وصناعها، وللسخافة وروادها، وللسطحية ونجومها.
إن الدخول في حلبة هذا الصراع لم تعد اليوم خيارا، بل أصبحت مسؤولية مجتمعية، لا يمكن أن نتخذ منها موقفا محايدا، فإما أن نكون في جبهة مقاومة التفاهة، وإلا فإننا سنصبح وقودا لنشر التفاهة وتكريسها في المجتمع.حفظ الله موريتانيا...
محمد الأمين الفاضل