قبل عرض قانون النوع على البرلمان للمصادقة عليه، لم يكن موريتانيون كثيرون ينتبهون لخطورة «التحرش» بالنساء، ذلك السلوك الذي جاء القانون الجديد ليعالجه وليشرع العقوبات الخاصة به حماية للمرأة.
فالمجتمع الموريتاني نشأ غير منظم بقانون جامع ملزم بل بحزمة أخلاقية دينية في الأساس، كما أن في تقاليد البادية الموريتانية لا ضرر كبيرا في أن يظهر شباب الحي رغبتهم في فتياته؛ وفي أيام الأعياد تخرج فتيات الحي غير المتزوجات بلباسهن وحليهن وزينتهن لساحات اللقاء مع الشبان دون أن يكون في ذلك بأس كبير.
وفي هذه اللقاءات يتجه كل شاب للشابة التي يريد، ويلقي الشباب عمائمهم على الفتيات رفقة الزغاريد الحماسية، وتكون الفتيات اللائي لم يلق عليهن أي شاب عمامته في حالة من اليأس والشعور القاتل بالبوار.
ومن العادي جدا في المجتمع الموريتاني أن يتغزل شاب بفتاة بقطعة من الشعر أو قصيدة من الزجل الشعبي.
وجرت العادة في حالة طلاق النساء أن يبادر رجال وشباب الحي لنظم الأزجال التي تسمى «الشارات» انتصارا للمطلقة وتعويضا لها عن أبغض الحلال.
كل هذه العلاقات العادية التي تعود عليها الشباب والتي تعتز بها الفتيات الموريتانيات، لكونها دليلا على جمالهن وعلى فرصهن في الحياة وعلى أسرهن للقلوب، حولها قانون النوع المعروض على البرلمان، إلى جنح وجرائم وحدد لها عقوبات رادعة.
كيف يرى المدونون الموضوع؟
ولم تكد قضية قانون النوع ومواده المتعلقة بالتحرش تعرض على البرلمان، حتى طرح كبير أساتذة الأدب العربي في جامعة نواكشوط الدكتور الشيخ معاذ سيدي عبد الله على صفحته إشكالية التغزل والتحرش، وذلك تحت سؤال: هل يعتبر شعر الغزل تحرشا لفظيا؟
وتساءل الدكتور سيدي عبد الله «هل سنضطر إلى حذف غرض الغزل من قائمة أغراض الشعر العربي؟ وماذا عن دواوين العذريين، وصريع الغواني وديك الجن وابن ابي ربيعة وولد احمد يورة وولد ابنو ونزار وغيرهم، هل سيمنع تدريس تحرشهم أقصد غزلهم؟».
هذه الأسئلة الحائرة لاقت تجاوبا كبيرا من جنسي المدونين الموريتانيين، حيث كانت المدونة زهرة نرجس أول من علق فكتبت: ذاك تحرش عذري ونظيف ومطلوب، أما تحرش اليوم فهو سلوك متخلف، ودائما ما يكون عن سبق إصرار وترصد، ودائما ما تنتج عنه ضحية، وأظن أن هذا ما يقصده القانون الجديد. يا ليت كل متحرش كان مثل الشاعر ولد أبن أو مثل عمر بن أبي ربيعة، لو كانوا كذلك لطالبنا نحن النساء بهذا النوع من التحرش».
وعلق المدون سيدي احمد سالم قائلا «أما قول الشاعر (ما زال ثغرك رغم الصمت يعترف) فيعتبر تحرشا حسب ظرف القائل والمقول لها، فإذا كان القائل مرتبطاً يعتبر تحرشا وظلما، أما في حالة عدم ارتباط فيعتبر من الغزل الجريء».
وأدلى المدون سيداتي سيد الخير طويلب بدلوه في لجة النقاش قائلا «لا معنى للشعر دون التحرش».
وكتبت المدونة أم عزيز بي تقول «هذا النوع من التحرش ضروري، ونحن في الأصل غير مهتمين بمتابعة القانون».
ويرى الشاعر الكبير احمدو ابنو احمدو «أنه لولا غرض الغزل لما كان للشعر طعم».
وظل التحرش منذ عقود عدة داخل المجتمع الموريتاني، ضربا من التابوهات التي لا كلام فيها ولا عنها، رغم أن الحياة تكاد أن تكون كلها مسلسلا من التحرشات، حتى جاء قانون النوع فعرف مصطلح التحرش بأنه «كل لفظ أو فعل أو معاكسة أو إيحاء أو إشارة أو تصرف له معنى جنسي أو مبنى على الجنس».
وعرفت قوانين مجتمعات أخرى الجنس بأنه «أي صيغة من الكلمات غير مرغوب بها و/أو الأفعال ذات الطابع الجنسي والتي تنتهك جسد أو خصوصية أو مشاعر شخص ما وتجعله يشعر بعدم الارتياح، أو التهديد، أو عدم الأمان، أو الخوف، أو عدم الاحترام، أو الترويع، أو الإهانة، أو الإساءة، أو الترهيب، أو الانتهاك أو أنه «مجرد جسد».
وحدد المشرعون أشكال التحرش بأنه يشمل النظر المتفحّص والتعابير الوجهية مثل الغمز، وفتح الفم، وكنداءات «البسبسة» مثل التصفير، والصراخ، والهمس، وكالتعليقات وعرض النكات أو الحكايات الجنسية، ومن التحرش الملاحقة أو التتبع ومنه الدعوة لممارسة الجنس، ومنه وعرض الصور الجنسية.
ويشمل التحرش أيضا ما أصبح يعرف بالتحرّش عبر الإنترنت كالقيام بإرسال التعليقات، والرسائل و/أو الصور والفيديوهات غير المرغوبة أو المسيئة أو غير اللائقة عبر الإيميل، وكذا بعث الرسائل الفورية، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، والمنتديات، والمدونات أو مواقع الحوار عبر الإنترنت.
أما مكان ومصدر التحرش الجنسي فقد أكدت المنظمات المتخصصة في تتبعه ودراسته أنه يمكن أن يحدث في أي مكان وفي أي وقت، سواء في الأماكن العامة أو الخاصة، كالشوارع، وأماكن العمل، والمواصلات العامة، والمدارس والجامعات، والمطاعم، والأسواق التجارية وغيرها.
والغريب أن الحديث يجري أكثر عن تحرش الرجال بالنساء بينما يندر الحديث عن تحرش النساء بالرجال. فهل ستظل القوانين مهتمة فقط بالمتحرشين من الرجال من ذوي الشهوة المعلنة، دون الإهتمام بالمتحرشات الموجودات بدون شك وإن كن يخفين؟
المصدر: «القدس العربي»