الحديث عن السلام والمفاوضات والمرونة والتنازلات لا يجذب الاهتمام للقضية الفلسطينية، ولا للسياسات الاستيطانية المتغولة في الأراضي المحتلة، لكن الامر المؤكد ان عملية الدهس التي وقعت في مستوطنة يهودية جنوب القدس المحتلة،
وادت الى مقتل أربعة جنود إسرائيليين، واصابة 15 آخرين على الاقل، حسب المعلومات الأولية، ستكسر هذه القاعدة التي ترسخت في الفترة الأخيرة، وجعلت القضية الفلسطينية تتراجع الى ذيل الاهتمامات العربية والعالمية، ودفعت بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء، وأركان حكومته المتطرفة، لتصعيد تشددهم وارهابهم، واحتقارهم لعملية السلام، بل وللعرب والمسلمين أيضا.
منفذ العملية الهجومية، الشاب فادي القنبر، ابن القدس المحتلة، لم يهبط الى مستوى الجيش “الحضاري” الإسرائيلي، واخلاقياته المتدنية، في قتل المدنيين، والأطفال خاصة، مثلما فعل هذا الجيش في الحرب على غزة، والاعدامات الميدانية لحملة السكاكين والحجارة في المدينة المقدسة من الشبان والشابات، واطلق النار بدم بارد ممزوج بالحقد على شاب ينزف للإجهاز عليه امام عدسات العالم بأسره، وانما استهدف جنودا إسرائيليين مدججين بالأسلحة، وهو الأعزل، الا من الايمان بقضيته وعدالتها، ودماء الشجاعة والاقدام المغروسة في جيناته. لم نستغرب مسارعة نتنياهو الى الربط بين عملية الدهس هذه ونظيراتها في نيس وبرلين اللتين نفذهما شابين مسلمين تونسيين ينتميان الى تنظيم “الدولة الإسلامية” وبتوجيه منها، وذهابه الى حد القول بأن هذا الشاب جندي من جنود ابو بكر البغدادي، تماما مثلما فعلت حكومته بربط الفلسطينيين بهجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 التي نفذتها خلية تابعة لتنظيم “القاعدة”، وتصوير دولة الاحتلال الإسرائيلي بأنها مهددة بالإرهاب، وهي اكبر دولة إرهابية في العالم بأسره.
ما يعلمه نتنياهو جيدا ان لجوء شبان فلسطينيين الى اعمال الدهس كأسلوب لمقاومة الاحتلال، وفي مدينة القدس المحتلة تحديدا، بدأت قبل سنوات من ظهور تنظيم “القاعدة”، وعقود من تنظيم “الدولة الإسلامية”، التي لا يزيد عمرها عن بضعة أعوام، ولا نستبعد ان تكون عناصرها وقيادتها قد تبنت هذا النهج اقتداء بأهل الأراضي المحتلة، الذين استخدموا الجرافات والشاحنات بعد ان طفح كيلهم من اذلال الاحتلال.
وحتى لو ثبت ان هذا الشاب ينتمي فعلا الى تنظيم “الدولة الاسلامية” فإن بنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي العنصري المتطرف هو الذي دفعه للاقدام على هذه الخطوة عندما قتل عملية السلام، ودمر حل الدولتين، وزرع حوالي 800 الف مستوطن في الضفة والقدس المحتلين، وهوّد المدينة المقدسة، وقسم الحرم الابراهيمي، ومارس ابشع أنواع الإرهاب والمهانة والاذلال بالشعب الفلسطيني.
كان منظر الجنود الإسرائيليين، الذين ينتمون الى الجيش الذي لا يقهر، مثيرا للشفقة والازدراء والشماتة، وهم يهربون من المكان بالعشرات بأسلحتهم في حالة من الهلع والرعب، للنجاة بأرواحهم.
كم كنا نتمنى لو ان الجنرالات العرب شاهدوا هذا المنظر الموثق بالصوت والصورة على قناة الـ”يوتيوب”، لعلهم يتخلصون من عقدة الخوف والرهبة من هذا الجيش، ويتحلون بشجاعة الشبان والشابات الفلسطينيات العزل في بلد الرباط.
هذه العملية رسالة الى دونالد ترامب الذي يستعد لتولي الرئاسة الامريكية، ويهدد سفيره المتطرف الذي عينه في تل ابيب بنقل السفارة الامريكية الى القدس المحتلة “العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل”، مثلما ذكر في اول تصريح بعد تعيينه في منصبه الجديد، ومضمون هذه الرسالة تقول بأن الاقدام على هذه الخطوة سيفتح ابواب الجحيم في منطقة الشرق الأوسط، اما الشق الثاني من هذه “العملية الرسالة” فهو موجه الى نتنياهو وحكومته ومستوطنيه، تؤكد بأن الشعب الفلسطيني لن يستسلم، ولن يعترف بدولة الاحتلال دولة يهودية، ولن يتنازل مطلقا عن القدس، او أي شبر من ارض فلسطين التاريخية.
من يقتل الاعتدال وقيم العدالة والتعايش لن يحصد غير التطرف والمقاومة باشكالها كافة.. وامة فيها هذا الشعب العظيم لن تهزم ابدا.. والأيام بيننا.
عبد الباري عطوان