تحرير الأرقاء في موريتانيا بين ارتباك الرؤية وأجندات التوظيف

أربعاء, 10/19/2016 - 00:05

تأسست حركات تحرير الأرقاء ومقاومة أنماط العبودية التقليدية في المجتمع الموريتاني في منتصف السبعينيات وبدأت نضالات سياسية قوية مما وضع السلطة أمام خيارات سابقة بتحرير الأرقاء وكان قد تم تجميدها في العهد المدني .. غير أن سلطة الرئيس المختار التي كانت آن ذاك مثقلة بأعباء شيخوخة النظام وعجزه عن البحث عن حلول جذرية لهذه المشكلة لم تكن قادرة على التصرف استجابة لتحديات بدأت تبرز وتحتاج موقفا سياسيا قويا يتعالى على رفض الزعامات التقليدية القبلية والفقهية.

ارتباك في الرؤية

وتعود أول المحاولات الرسمية الجادة لمحاربة العبودية في موريتانيا إلى تعميم أصدرته وزارة الداخلية يوم 16 مارس 1966 إلى جميع حكام الدوائر ورؤساء المراكز الإدارية ثم التعميم الذي أصدره وزير العدل الأسبق المعلوم ولد برهام يوم 05/12/1969 للحكام ورؤساء المراكز الإدارية والقضاة يأمرهم فيه بتحرير أي رقيق يمثل أمامهم في نزاع مع سيده ثم جاء قانون تحرير العبيد الصادر في 09 نوفمبر 1981 الذي أقره الرئيس السابق محمد خونا ولد هيدالة والذي أجبر الأسياد على تحرير عبيدهم الراغبين في الحرية مقابل تعويض الدولة لهم.

كان ذلك أول قرار فعلي بإلغاء هذه الممارسة التي جددت الحديث الفقهي حول الموضوع مما جعل الفقهاء ينقسمون حول الموقف من قضية التحرير وهو الخلاف الذي سيستمر ويشكل أكبر معلم لتحكم الرؤية التقليدية لعلماء البلاد رغم التحولات الكبيرة التي تستدعي تجديد النظر الفقهي فيما يستجد من نوازل وأحكام.

وفي العام 2007 أصدر الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله قانونا للتجريم الممارسة وتم تعديله في العام 2015 بآخر جديد يكمل بعض مقاصده ومراميه وأشفع بقانون هام فيما يتعلق بالمساعدة القضائية ربما تستفيد منه الشريحة أيضا بشكل أكبر إذا طبق واستثمر.

وفي العام 2013 صادقت الحكومة على خارطة طريق للقضاء على الرق ومخلفاته تتألف من 29 نقطة تتعلق بالتركيز على محاور قانونية واقتصادية وتعليمية غير أنه ورغم مرور ثلاث سنوات على المصادقة على هذه الخريطة إلا أنه لا أثر للعمل بمحاورها إذا استثنينا التحسينات المتعلقة بالجانب القانوني وحديث مستمر عن وعود ودراسات فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والاقتصادي.

     فكرة التحرير قديمة

وعلى الرغم من حداثة الشروع في تحريم الرق في موريتانيا رسمياً، إلاّ أن المصادر تؤكد أن الدعوات التحريرية والمشككة في شرعية الاسترقاق الموجود في البلاد، قديمة قدم هذه الظاهرة يقول العلامة أباه ولد عبد الله في فتواه المتداولة بهذا الخصوص : “… كما أنه ربما كان بعض تجار العبيد يشترون من بعض اللصوص الذين لا يتقون الله تعالى في بيع الأحرار وأكل ثمنهم، وقد نبه على هذا العلامة سيدي أحمد بابا التنبكتي، وألف رسالة في الموضوع سماها: (معراج الصعود) وعد القبائل الكافرة التي يجوز استرقاقها، والقبائل التي أسلمت طوعا بلا استيلاء أحد عليهم، وتكلم السلاوي في الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى وأطنب في الموضوع عند الكلام على دولة المنصور الذهبي السعدي، ونفيه لآل أوقيت أسرة العلامة أحمد بابا التنبكتي، وقال البناني المحشي عازيا لشيخه أبي العباس ابن مبارك اللمطي راويا عن بعض الثقات ممن يجاور بأرض السودان: أن ما يجلب من ناحيتهم أحرار ويُغار عليهم” مما يعني أنهم في الأصل أحرار مسترقون.

غير أن هذا الرأي الميال لتحرير الرقيق والمشكك في مشروعية بعض الاسترقاق والاستعباد لا يزال يقابل بآراء أخرى عديدة لدى فقهاء آخرين يرون أن هذه الظاهرة استندت في بعض الأحيان لرؤية فقهية سليمة.

وظل رأي هذا البعض من الفقهاء هو السائد معتبرا أن وضعية الرقيق التي أقرها الشارع تعتبر من الثوابت التي لا يجوز التنازل عنها مهما كانت ثمة تحفظات على الممارسة يجب أن تعالج أيضا في ضوء الفقه الإسلامي ترشيدا وتسديدا وليس بأساليب التمرد والأبق الذي وضع هذه الشريحة في وضعية استرقاق جديد أضرت بالأرقاء ومسترقيهم والوضع بشكل عام ويؤكد هؤلاء على ضرورة البحث عن حلول تتيح للأرقاء التخلص من الرق بالوسائل الشرعية.

تحرير .. حبر على ورق

جرت مياه كثيرة تحت جسر الرقيق ومسألة الحرية غير أن الهوة السحيقة ما بين الماضي والحاضر لم تجد من يجسرها على مستوى الرؤية الفقهية الدينية رغم أن أغلب بلدان العالم الإسلامي ألغت الرق واختفت فيها شرائح الأرقاء السابقين بفعل تحرك عجلة التحديث والتحولات العميقة مما شكل فرصة لهذه المجتمعات للتخلص من جزء كبير من ماضيها السلبي.

 ورغم التقدم الكبير الذي أحرزه نضال الأرقاء السابقين في البلاد الموريتانية إلا أن جيوبا لممارسة أشكال عتيقة من الاسترقاق لا تزال مستمرة والأخطر من ذلك أن مخلفات هذه الممارسة القديمة في موريتانيا تكاد اليوم تشكل أحد الصواعق المهددة بالانفجار  والتي تهدد استقرار البلاد ورغم أن شريحة الحراطين مؤثرة وفاعلة في العملية التنموية من حيث حجم العمل إلا أن قراها وتجمعاتها تشهد مستوى كبيرا من التهميش ويعاني أبناؤها باستمرار من ثالوث التخلف والجهل والمرض.

وتعرف الإشكالية نوعا من التجذر والبروز حوَّل الأرقاء إلى شريحة وقسيم لبقية المجموعات وهو فعل سيئ من انتاج فشل الحاكمية السياسية والذي كرس فشلا ذريعا لجهاز الدولة التي انحازت دائما للأسياد خصوصا في ما يتعلق بالنزعات العقارية وأنواع أخرى من الاستغلال تتمثل في التشغيل برواتب زهيدة تحت السقف القانوني وكذا تشغيل القصر من الفتيات والفتيان وهم في عمر الزهور هذا فضلا عن ممارسات أخرى إجرامية كالاغتصاب المشرع بشبهة الملك وغير ذلك.

تدويل مسألة الرق

ورغم كون السنوات الأخيرة شهدت بروز خطاب حاد لدى نشطاء الحركات الحقوقية والسياسية المنحدرين من أوساط الحراطين إلا أنها تحافظ لحد الساعة على النضال السلمي ولم تنزلق إلى العنف رغم قمع السلطة المتكرر واستمرار تعامل الإدارة المنحاز للأسياد.

غير أن أهم تطور في هذا السياق هو المتعلق بتدويل الملف والذي لم يبدأ بشكل فعلي ولكنه بات على الطاولة ففي مطلع 2010 قام الساموري ولد بي أحد القيادات التاريخية لحركة الحر بإرسال رسالة للأمين العام للأمم المتحدة للتعبير عن معاناة الأرقاء السابقين وما يلاقونه من معاملة تهميش في ظل عجز السلط الفاسدة عن ايجاد حلول مقبولة لقضيتهم ومع أن مسار التدويل يحتاج لما هو أكثر من هذا إلا أن هذه الخطوة في حد ذاتها كانت قوية ومفاجئة لاستنجادها بالخارج في مسألة داخلية.

ومع الجوائز التي نالها القيادي المؤسس لحركة إيرا بيرام ولد الداه ولد اعبيدي اتضح أن مسألة التدويل دارت عجلتها نحو المستقبل ولكنها تنتظر شحنات دفع أقوى في الزمن القادم وهو ما قد تقود إليه تجاذبات الصراع في البلاد ليس بين الحراطين والطغم البيظانية الحاكمة فقط وإنما سيوظف البيظان هذه الورقة في إطار صراعاتهم البينية الخارجة عن ضوابط أي أخلاق وإنما بدوافع الانتقام واللجاجة في الخصام.

وتبقى الرؤية التقيمية لواقع الرق راهنا سواء فيما يتعلق بوجود الممارسة وحجمها واستمرار آثارها المدمرة أساسا لابد من استرجاعه لتحديد مكامن الخاطئ والصحيح كلما طرحت هذه المسألة بمناسبة تأسيس الحر وفي غيرها من المناسبات.

والذي يتفق عليه الكثيرون الآن من المتابعين لمسالة الرق وتوابعها أن وضعية الأرقاء السابقين وهم الشريحة الأوسع تعتبر مدمرة لدرجة أن وضعية العبيد ربما تكون كانت أفضل من واقع وجودهم الآن مكدسين في (ghetto / جيتوهات) معزولة في هوامش المدن أو في مناطق استغلالهم القديمة في داخلا البلاد كما ان دور المنظمات الحقوقية وأجهزة الدولة والأحزاب التي تعيد من جديد توظيف قضيتهم ليس لخدمتهم والحد من مأساتهم بل لمزيد من استغلالهم كمخزون انتخابي وكقوى عاملة رخيصة بالنسبة للمشغلين أو الاستفادة من المنح المالية بالنسبة للتنظيمات الحقوقية والنضالية أو الاستفادة من الشهرة والوجاهة بالنسبة الأفراد المنخرطين باستمرار في سكب دموع التماسيح على هذه المأساة! مع استثمارهم لعائد الدموع ليس لصالح الضحايا ولكن لمزيد من الاستغلال المستثمر سياسيا وحقوقيا ورمزيا من قبل بعض القيادات كل هذا لابد أن يكون محل نقاش صريح ذلك أن وجها من أوجه الاستعباد الجديد يعاد انتاجه وان بصيغ أخرى بحق هذه الشريحة المؤثرة والهامة في حاضر ومستقبل نسيج البلاد الاجتماعي.

نسجل هذه الملاحظات لأنه لحد الساعة رغم مجهود المناضلين وإرثه الذي يتجاوز العقود الأربعة ورغم مجهود الدولة ورغم الإثراء الكبير لبعض الأفراد من عائد المسالة الحقوقية إلا أننا لا نكاد نجد مؤسسة واحدة نشأت لتقدم دعما حقيقيا مشهودا لا نزاع فيه لهذه الشريحة فأين هي المدرسة التي ترعى تعليم هؤلاء في مناطقهم وأين هي المصحة التي تداويهم وأين هي رعاية طلابهم المتعلمين الأكفاء وأين هي المؤسسة المشغلة المساعدة في الزراعة والحرف ؟ إن كم المنظمات الحقوقية كبير جدا ولكن لا تكاد تجد إلا الأقل منها يقوم بدور خجول وضعيف بل أضعف من الضعيف أما الدولة ووكالاتها فهي دلافين فساد ابتلعت واتخذت وسيلة للتجييش الانتخابي دون عائد على الشريحة المسترقة حاليا أو سابقا.

إن هذه الملاحظات ليست فتا في العضد الحقوقي والنضالي وليست إزراء بالدور التنويري والتحريري للتنظيمات والجمعيات الحقوقية المحرك لعجلة الخلاص من واقع أليم ولكنها مع غيرها مما يسكت عنه الآن لحساسياته المفرطة من الممهدات الضرورية لنقاش صريح يساعد على الترشيد والتقويم والتسديد لحراك الأرقاء ومناصريهم من أجل استكمال الحرية تعزيزا للسلم وحوارا بالحسنى لعل المسيرة تهتدي للأقوم والأصلح في شأن الوطن والأمة.

 

محمد الحافظ ولد الغابد ـ لـ إسلام أون لاين