"التخطيط في الرمال و الرسم على الماء"
اعتدنا كغيرنا من الشعوب التي هي في مثل تخلفنا و ضعف أدائنا في مسيرة التنمية إلى التقدم و بناء دولة القانون و المواطنة على اعتبار "التخلف" ظاهرة اقتصاديه و ألفنا سماع أن بلدان العالم تنقسم إلى دول متقدمة و أخرى متخلفة و أنه التقسيم القائم على أساس التفاوت الاقتصادي الحاصل بينها. إلا أنه ظهرت إلى جانب هذه الاعتبارات فكرة "التخلف السياسي" و الحديث عن "التنمية السياسية" قياسا على التنمية الاقتصادية حتى أصبح من المسلم به أن البلدان التي تعاني من هذا التخلف السياسي هي نفسها التي تشكوا من "التخلف الاقتصادي". ولكي يبدو الارتباط بين الناحيتين الاقتصادية والسياسية مقبولا و منطقيا، ينبغي أولا، التسليم بأن للاقتصاد تأثيرا يعتد به على السياسة، أو على الأقل أن هناك تلازما عضويا بينهما .
و موريتانيا و إن يريد لها البعضُ، رغم مرور ستة و خمسين سنة على استقلالها و فترة ما قبل ذلك من الخضوع للاستعمار، أن تكون دولة حديثة العهد بالمدنية و التحضر و التعاطي لسياسي داخل الأطر الحزبية و الحرحكية و تنظيمات المجتمع المدني، إلا أن نصف قرن من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي وضعت العالم كله عند نقطة البدء من جديد على خلفية الدمار و الخراب اللذين احدثتهما و توريط جل شعوب العالم في تداعياتها، كانت كفيلة بظهور أجيال ذاقت طعم السياسة و نطقت بلغة النضالات التي كانت سائدة و صدحت أفواهها بمصطلحات ذلك العصر و التي منها "النضال الثوري" و "العمل التقدمي" و "الاشتراكية" و "شرعنة الدكتاتورية الثورية" و "سحق الأنظمة الطبقية" و "الاحزاب القومية" و "الحزب الواحد و القائد"، والتي لم تعد في أغلب أحوالها سائغة، مقنعة و مقبولة في وقتنا الحاضر و إنما تدخل فيما يطلق عليه نديم البيطار "التخريجات اللفظية والمفاهيم الإنشائية" و طالما أن التجربة الإنسانية قد تجاوزت حقبتها فإن مفرداتها في طريقها هي الأخرى إلى الاضمحلال و الزوال.
و على الرغم من هذه المواكبة للتحولات السياسية العميقة التي شهدها العالم بوتيرة سريعة و غيرت ملامحه و قربت بالاكتشافات العلمية المذهلة كل أرجائه حتى بات يدعى بحق "القرية الكونية"، فإن موريتانيا و قليل الدول من أمثالها قد أصبحت تعاني القصور عن التحول و التقاعس في عجز سافر عن مواكبة العصر و تسجيل نفسها في سياقاته الحديثة. و لا شك في واقع ذلك الحال أن بقاءها الصارخ في مؤخرة الركب الأممي مرده تخلفها السياسي الذي ترجمه على مر الحقب عجزُها عن صياغة أنظمة و أحكام تقتبس بدون عُقد أو تردد من التجارب العالمية المتنوعة و الناجحة حولها من ناحية و عدم امتلاك "نخبها" النظرة الثاقبة و العميقة إلى الواقع و ضعف حرصها على بناء منهجية إرساء أركان الدولة القوية بمقدراتها الوفيرة و على أسس العدل و المساواة و المواطنة من ناحية أخرى.
و تبقى الحقيقة المرة الماثلة للعيان أن الممارسة السياسية لبست منذ الوهلة الأولى في موريتانيا - قبيل استقلالها أيام قبل الفرنسيون في منتصف الاربعينات من القرن المنصرم ظهور الأحزاب السياسية الأولى على منوال و منهجيات التشكيلات الحزبية الفرنسية و بروز خطابات سياسية وطنية بنبرة تحررية - رداءَ الاعتبارات الاجتماعية القائمة و العقليات السائدة لتجتاز بها وثبا المجالَ الزمني و تحافظ لها على قوالب التجاذبات الماضوية. و لما لم نستطع الحركات السياسية التي ظهرت هي الأخرى في عند مستهل السبعينات و المتـأثرة بالإيديولوجيات العالمية أن تغيير الوضع و تعطي السياسة وجها تحرريا جديدا فقد دخلت على الخط بعد سنوات ثلاثة من حرب الصحراء سلسلة متتالية من الانقلابات العسكرية لتزيد الطين بلة و تحرمَ "السياسةَ" من وجهها الناصع الذي يحمل الآمال بحلول الديمقراطية و العدالة و التقدم و المنعة و الرخاء.
و لو أن التخلف السياسي في بعض تعريفاته الكثيرة هو تخلف الأنظمة عن تحقيق أهداف الأمة فأنه كذلك و من دون شك أحد إفرازات التخلف الاجتماعي والثقافيوالتاريخي لهذه الأمة في دائرة وطنها الهش و المبعثر بين كل الاعتبارات الضيقة و المفاهيم المتناقضة التي لا تنتمي بأي منطق إلى الدولة الحديثة التي ترتكز على المدنية و تتمحور حول ضرورة التحضر و تسعى إلى الاستظلال بشجرة الديمقراطية الوارفة الظلال.
و مهما حمل هذان التعريفان من ضعف الإحاطة إلا أنهما أصابا بدقة مدرك حقيقة واقع الممارسة السياسة في موريتانيا، فكل الدلائل و المؤشرات لا تنفي عجز طبقتهابكل لون الطيف الموجود البارز عن أن تصبح تلك الأداة المطلوبة بإلحاح للانتقال من حالة التخلف إلى أفق التطور و امتلاك السلوكيات المتحضرة و المنهجيات العلمية لارتقاء سلم التقدم الاقتصادي ولتحقيق العالة الاجتماعية و الرفاهية المادية للمواطنين.