بينما كان جنون الإرهاب يجتاح العالم أجمع، وأصداء التفجيرات الانتحارية تردد في غير مكان في مدن أوروبا وشوارعها، وفيما كانت دول قد تحولت بشكل كامل إلى أطلال وخرابات، وبينما الدبابات والآليات العسكرية تجوب حارات عاصمة الاستقرار في الشرق الأوسط، وفي مناخ إقليميّ ودوليّ مشحُون بالسّموم، كانت بضع سيارات من الحرس الرئاسي والشرطة تؤمن بثقة تامة أكبر حدث تحتضنه نواكشوط على الإطلاق، منذ ميلاد موريتانيا الحديثة.
في الأصل لا يوفر هذا العصر ترفاً كهذا، ولا يمكن أن يكون ذلك وليد صدفة سانحة، أو ضربة حظ سعيدة، ولا حدثا معزولا أو استثناء نادرا وسط حالة من القواعد، هنا لا تفيد المكابرة والإنكار في شيء، وليس للإنسان الذي يمتلك حدّا أدنى من الموضوعية ويتمتع بذرة منطق إلا أن يعترف بهذا المكسب الجليل...
الآن يمكن القول ـ دون اجتراء أو تحيّز ـ أن موريتانيا باتت من بين البلدان الأكثر أمانا على خريطة هذا العالم المشتعل بالنّار والحرب والغارق حتّى أذنيه في الدّماء والجماجم، هذا "الوضع الآمن" كان فيما يبدو تتويجا لنجاحات أمنية وتطوير للبنية العسكرية تسليحا وتدريبا ورفعا للقدرات الشخصية والمعنوية لأفراد ومنتسبي القوات المسلحة، وصيّاغة عملية لأهداف الاستراتيجية الموريتانية لمكافحة الإرهاب التي تحولت إلى ناموس وقاموس لتفكيك وتفتيت هذا الشبح الرّابض على تخوم المنطقة والعالم.
من هنا منبع الثّقة الرسميّة ـ حسب اعتقادي الآني ـ في قدرة موريتانيا على استضافة حدث بحجم القمة العربية، تماما مثل ما كان الهاجس الأمني وراء نكوص بعض دول الجوار وتقاعسها عن واجبها في استضافة القمة، مهما قيل في ذلك من تفسير وتبرير...
إلا أنّ التحدي الحقيقيّ ـ بالنسبة للموريتانيين ـ كان لجهة توفير بنية تحتية لائقة بحجم ضيوفهم، وهنا مفارقة أولى بين الدول التي تتوفر على بنية تحتية متقدّمة وكافيّة لكنها لا تستطيع تأمين الحدث بشكل كامل، وبين موريتانيا التي تستطيع تأمين القمة بكل سهولة ويُسر ولكنها لا تمتلك البنية التحتية اللازمة لاستضافتها!
لكن تحديّ الأمن يزري بما سواه من التحديات، لذلك استطاعت البلاد توفير حدّ أدنى من البنية التحتية في أسابيع قليلة، بينما يستحيل عمليا أن تضمن أي دولة في العالم الأمن بعمل أسابيع أو حتى أشهر.. لكن الأطراف التي لم تعجبها جسارة موريتانيا في استضافة القمة العربية، استطاعت، وهذه مفارقة أخرى ـ أن تتخذ من الهاجس الأمني (الذي هو فرس الرّهان الموريتاني الأول) ورقة دعائية معادية في سياق حملة التشويش على تحضير وسير القمة، فيما وقفت وسائل الإعلام الرسمية والموازية في موريتانيا عاجزة عديمة الحيلة أمام جنرالات التواصل الاجتماعي، نازيّو تويتر وبرابرة فيسبوك.
هذا ما يدفع للقول بأن الأفضل هو استثمار الجهود والعقول للمحافظة على الأمن والاستقرار كمفتاح للانتعاش الاقتصادي ولتطوير البنية التحتية والنهوض ببقية مفاصل الدولة الإدارية والسياسية والتنمويّة، دون إهمال أو إغفال ساحات أخرى لا تقل أهمية أولها الإعلام الجديد والدعاية الرقمية، التي في غيابها تصبح الإنجازات العظيمة في أيّ مجال كسيحة هزيلة وتغدو رموز الدّولة ومؤسساتها فريسة سهلة للسخرية والتندر.
***
أسَابيع قبل القمّة، استيقظ الضّمير الوطني من غفوته التي دامت عقودا، رأينا الطّرق تُمدّ، والأرصفَة تتوسّع، والشّوارع تنظّف وتلّمع، والنّخيل يُغرس على جنبات الطّريق، والحدائق تُسقى وتخضّر وتتزيّن عند ملتقيات الطّرق، وأعمدة الإنارة تنحني بخُشوع مطلقَة إضاءاتها الباهرة على امتداد البصر، ورأيتُ ـ شخصيّا ـ أفراد الشّرطة وأمن الطّرق يطبّقون القانون بكلّ حزم وصرامة أمام عيني الذاهلتين، ورأيت ـ نعم رأيت ـ سيارة الـ في 8 بجلالة قدرها تُلتقط برافعة من الشّارع وتُشحن إلى "فوريير" كسيرة مهيضة الجناح!
رأيت السّائقين الأكثر جموحا وعدوانيّة وانفلات أعصاب، يطيعون إشارات المرور، ورأيت الطرق والسّاحات خاليّة من السيارات ومن الباعة العشوائيين، وقد بدت واسعة كالأفق، ممتدة ورحيبة، وفي العالم الافتراضي لاحظت أن الكثير من المعارضين المزمنين قد طرح ثأرياته الشخصية مع الرئيس والحكومة جانبا، وانبرى يدافع عن خيارات موريتانيا، وسمعة موريتانيا ووجهها أمام يحاولون تقبيحه وسلخه.
شاهدت رجل الأعمال، والسياسي المتنمّر، والمسؤول المنتفخ بكلّ جبروته، ينقاد مذعنا لأوامر جندي من الحرس الرئاسي ويرضخ مستسلما لتعليمات وكيل من الشرطة، وإذا وسّعنا زاوية الرؤية قليلا، رأينا أنّ أحزاب المعارضة ومدمنو الاحتجاج ـ على اختلاف دوافعهم ونوازعهم ـ دخلوا جميعا في هدنة غير معلنة مع الحكومة، وتماهوا مع متطلبات الأمن والسكينة العامة.
رأيت كل هذا جديرا بالاحتفاء والتّأمل. كيف استطعنا أن نتحلى بهذه الوطنية النقية والاستقامة الإنسانية، وأن ننصهر في تنوع متفق منسجم، وأن نعبر عن نضج وروح مسؤولية بازغة في مجالات كالأمن والدبلوماسيّة مثلا؟ ونفشل ونتقهقر ونتردى في مجالات أخرى كالإدارة والبنية التحتيّة والصّحة والتعليم؟ ما معنى هذا التناقض؟ وما هي مآلاته؟ وإلى متى يستمر الحال على هذا المنوال؟
لماذا نستطيع أن نوجد ونفرض حدّا أدنى من النظافة، والليّاقة والنظام العام، لفترة معينة، في مكان كـ "تفرغ زينة" مثلا، ونعجز ونتقاعس عن "توسيع" هذه الحالة لتشمل بقيّة أجزاء العاصمة، وأرجاء البلاد، بشكل دائم ومستمر؟
إن تطبيق قانون عادل وبصير ومنطقي وصارم هو الملاذ الوحيد للتخلص من ممارسات لا تشي بثقافة ولا تعكس رقيا أو تحضرا أو حتى إنسانية، وهو الوصفة الملائمة لتجاوز واقع بات مُحزنا ومؤذيا وكذوبا،فلعلّنا إذا فعلنا ذلك اكتشفنا شعبا آخر هوّ ـ في عمق مبناه ومعناه ـ شديد التحضر ونقيّ العظمة!