من الواضح أن الغالبية الساحقة من الموريتانيين، على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية، وولاءاتهم السياسية، ومعتقداهم الفكرية؛ باتت على قناعة راسخة بضرورة المبادرة باتخاذ تدابير عاجلة من أجل مواكبة واعية، مسؤولة وحكيمة، لمسار التطورات المتسارعة من أجل ضمان انتقال سلس وتوافقي نحو مجتمع يسوده العدل والمساواة والمواطنة الحقة، في ظل دولة الحق والقانون والمؤسسات.. فبذلك وذلك وحده؛ من وجهة نظري المتواضعة، يمكننا قطع الطريق أمام موجة اليأس الجارفة التي بات هديرها يصك الآذان ويزرع الرعب في النفوس
إن موريتانيا أمس الحاجة، أكثر من ذي قبل، إلى عبور المنعطف الخطير الذي تقف على حافته اليوم؛ وهو ما يتطلب قبل أي شيء آخر، إدخال إصلاحات جذرية على منظومة الدولة، واستثمار جميع الإمكانيات المتاحة لذلك من إرادة سياسية، وموارد اقتصادية ومالية، ومقدرات ثقافية، وثراء حضاري متنوع، وفوق ذلك كله، الجامع الديني الموحِّد... بحاجة إلى وطنيين صادقين، قادرين على سن وانتهاج سياسات تجمع بين الشجاعة والحكمة، وتؤمن هذا الانتقال السلمي حتى يصل إلى مبتغاه.
لا أحد ينكر أن موريتانيا لم تعرف، على مدى نصف قرن من وجودها كدولة مستقلة، حالة من التوافق الوطني التام والمشاركة الجماعية الجادة في ضع أسس نظام مؤسسي عصري متكامل، يقوم على مبدأ المواطنة الكاملة ودولة القانون والمؤسسات؛ وفق ضوابط وثوابت دستورية أقرها الموريتانيون بكل حرية وشفافية؛ كتلك التي عاشتها خلال المرحلة الانتقالية (2005 ـ 2007)، حيث كانت الدولة تسير طبقا لقواعد الحكامة المتعارف عليها عالميا، وكانت منظومتها الإدارية والأمنية والاقتصادية والخدمية تعمل في انسجام وتناغم كاملين؛ بعيدا عن شوائب التسييس والمعايير الملتوية من قبيل المحسوبية والزبونية والمحاباة..
لم يضيع المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية الحاكم آنذاك أية لحظة، فكان العمل في الورشات الكبرى دؤوبا؛ سواء على مستوى التشاور الوطني الأوسع بين القوى السياسية والمدنية ومختلف الفاعلين في الحياة الوطنية، أو على صعيد إرساء ترسانة قانونية تضمن التناوب الديمقراطي السلمي على السلطة، وترسي أسس دولة الحق والقانون؛ وقواعد الشفافية التامة في تسيير الشأن العام.
لقد نجحت عملية الانتقال الديمقراطي في موريتانيا بشكل غير مسبوق في إفريقيا والعالم العربي؛ أبهر جميع المراقبين الدوليين وأدهش مختلف مكونات المجتمع الدولي؛ بفضل جملة عوامل من أبرزها:
ـ حرص الرئيس الانتقالي، علي ولد محمد فال ورفاقه من قادة المؤسسة العسكرية، على تشكيل حكومة كفاءات متحررة تماما من قيود الانتماءات السياسية والتخندق الحزبي وتحظى بصلاحيات كاملة وتخضع لرقابة هيئة رقابية وطنية كاملة السلطات والإستقلالية، هي المفتشية العامة للدولة؛
ـ اعتماد الشفافية المطلقة في تسيير الشأن العام وفتح باب المساءلة على مصراعيه لوسائل الإعلام الرسمية والمستقلة مع إخضاع جميع المسؤولين العموميين لتلك المساءلة في أية لحظة؛
ـ الابتعاد عن النظرة الرجعية وأوحال نبش ملفات الماضي؛ لضمان السير قدما بمشروع إرساء النظام الديمقراطي على أسس مكينة من الثقة و المصداقية والاستدامة؛
ـ إصلاح المنظومة القضائية وتحيين ومواءمة الترسانة القانونية والمؤسسية؛
ـ اعتماد سياسة خارجية متوازنة انطلاقا من المصالح الإستراتيجية لموريتانيا، وعلى أساس احترام سيادتها وخياراتها الوطنية؛
ـ فرض هيبة الدولة واستعادة مصداقيتها داخليا وخارجيا...
لم يسلم هذا المسار الإصلاحي الشامل والمتكامل، بطبيعة الحال، من بعض المحاولات هنا وهناك بهدف توجيهه وفق رؤى قوى داخلية، وأحيانا خارجية؛ قصد تطويعه على مقاس أجندات معينة واتخاذه مطية لبلوغ أهداف ذاتية ضيقة؛ لكن إصرار الرئيس ولد محمد فال ورفاقه من الوطنيين المؤمنين بموريتانيا ديمقراطية منسجمة مع ذاتها ومندمجة في محيطها الإقليمي والدولي؛ مكن من تجاوز كل المطبات والوصول بذاك المسار الانتقالي الفريد إلى وجهته الصحيحة عبر انتخابات تشريعية وبلدية، ثم رئاسية، نزيهة، شفافة، توافقية وذات مصاقية؛ بشهادة جميع المتنافسين فيها ومن راقبوها وطنيا ودوليا..
نجاح تم بإشراف ومتابعة جميع الشركاء في المجتمع الدولي: الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية، الاتحاد الإفريقي، الفرانكفونية الدولية، منظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأوروبي.. وكلل بتسليم السلطة لرئيس مدني تم انتخابه بكل شفافية ونزاهة؛ ليسجل التاريخ للرئيس اعل ولد محمد فال بأحرف من ذهب كونه أول رئيس يترك السلطة طواعية بعد أن أوفى بجميع التزاماته وتعهدات السلطات الانتقالية التي تولى قيادتها بنجاح غير مسبوق.
غير أن من المفيد، في هذا السياق، التذكير ببعض الأخطاء والهفوات التي ارتكبتها أطراف على صلة بجوانب أو مراحل معينة في آخر المسار الانتقالي الديمقراطي.
السالك عبد الله المختار