"الحوار وسيلة من وسائل الاتصال بين الناس، بحيث يتعاون المتحاورون على معرفة الحقيقة والتوصل إليها؛ ليكشف كل طرف منهم ما خفي على صاحبه منها. وأما في القرآن الكريم فجاء في إعجاز بيانه الحوار بمعنى المجادلة بالتي هي أحسن. وهو بهذا المعنى عبارة عن مطلب إنساني، بحيث يتم استخدام أساليبه حينما يكون بناء لإشباع حاجة الإنسان في الاندماج والتواصل مع محيطه".
في سياق البحث في فرص ومعوقات قيام الحوار المزمع انعقاده وشيكا تتنزل الندوة الفكرية التي نظمها المركز العربي الافريقي للإعلام والتنمية مساء الاحد 05-06-2016 ليسبر خلالها الجمع المعتبر من القادة السياسيين والأكاديميين والحقوقيين والإعلاميين غور إمكانات تحقيقه ومسببات إخفاقه وليتحاور بالمعنى المتمدن للكلمة حول كل الجوانب التي تتراءى لهم ويخرجوا بخلاصة على مستوى مكانتهم السامية في المجتمع وفي الدولة وبصفتهم الاوصياء الأول على بناء نهضة البلد وضمان استقراره على أسس العدل والمساواة والاعتزاز بالانتماء إليه والاستعداد للذود عنه.
ولا شك أن الجميع بدى مدركا لما أوحى لهم هذا العصر الاستثنائي، في كل تاريخ البشرية بتنوير العقل فيه، من أن الحوار هو أرفع ظاهرة متمدنة لقياس تقدم الأمم وتوازنها واستقرارها النفسي والمادي على الاطلاق، وأنه أيضا مسألة جماعية لا فردية تساق إليها كل الآراء لتتمخض عن رأي يصلح للكل فيسد الثغرات والصدوع ويردأ المفاسد ويشفي غليل النفوس من طيش الخلاف الذي يسكن في أحشاء "الأنا" المتهالكة الأركان والمهزوزة القواعد في عصر ينتصر فيه التوجه الكلي إلى المساواة في الحقوق والواجبات وتترسخ فيه رويدا قيمة الصوت الواحد المحرر من التبعية والاستغلال لكن ضمن مشاورة الجميع الشرطية المطلقة.
وإذ من المنظور أن يكون الحوار بهذا الوجه الناصع هو الذي يراعي المصلحة العليا للجميع، فإنه ما زال في هذه البلاد غير سوي لاختلاط ماهية المدنية الجديدة المدركة وسمو اساليبها إلى إحقاق الحق وصون المصلحة الجماعية بطرائق الماضي وعقليات التحكم في سير الأمور بها على أسس قهر الإرادات وسلب حقوقها بالقوة الغاشمة وإعفاء جهد التشاور والحوار؛ الأمر الذي لم تفلح الموجة العارمة من التعلم المفتوح على كل المعارف والذي وصل بأهله إلى أعلى المراتب احتواء وشهادات أن يقلص منه في الجوهر حتى قبل العمل.
من جوهر العصر الحديث أخذت الأحزاب ومن قبلها الحركات النضالية التحررية لأجل حقوق الشعوب ونهضتها الفكرية والثقافية والعلمية، وعلت نبرة مطالبة بالمساوات بإنهاء الفوارق الطبقية و الشرائحية وبتوزيع الثروات بعدالة بين كل فئات الشعب وجهات الوطن. ولكن الواقع العملي يشي بضعف القشرة وقوة النواة التي لم تغادر من الماضي أدنى جزئية فيه؛ فإن القبلية والتراتبية الاثنية و الطبقية مازالت مجتمعة هي القلب النابض الذي يتحرك به كل رئيس حزب أو منظمة أو حراك، يرتفع به في داخله صوت الأنا المجلجلة فلا يري نفسه إلا هو الحزب والحراك والقبيلة في تجليات كل منهم ما عدى الأداء بين جموع الجماهير، و لا يستحي من سرد تجاربه الفردية دون اكتراث بما يسببه من تلاشي الآخرين من حوله، وفي النهاية لا يغيب عنه أنه يريد نفسه دون غيره وباسم من هو في زعامته السياسية وانتمائه القبلي والجهوي مطايا ذلولة.
هي الحقيقة المرة وإن كان البعض لا يرى أنه من اللائق الإفصاح عنها، إلا أنه في قولها قد يستتر ترياق إن عم شفى بل نبراس هدى إن أشع هدى إلى ما هو أقوم لبلاد ذكر بعض المتدخلين ما أنعم الله عليها به من خير عميم وما يمتاز به من التنوع، وأن لو صدقت النوايا وخلصت إلى التشاور المجرد من اعتبارات الماضي التي تتوطن النفوس وتنافس فيها أمراض القلوب والعزوف عن ممارسة الصدق دون الخوف من اللوم فيه والتواضع دون الضعف عند اقتضاء إظهار القوة لانتصار الحق، لتجاوز الجميع هاجس الخوف من ضعف الذات ومن هوس "الأنا" المخادعة بحب الظهور، و من ثم إقبالهم على الحوار وتلبيتهم كل نداء إليه متسلحين بإرادة إرضاء الضمير و خدمة الوطن دون انتظار أجر مدفوع على ذلك.
فهل يهدي رمضان بما يحمل من العبر والوعظ الجميل لمضي الجميع إلى موائد الحوار بتجرد من زائل الدنيا وبفائض من حب الوطن مدركين أنه حقا من الإيمان، وحتى تشهد بذلك البلاد منعرجا جديدا يمهد بصالح كل الرؤى لتقويم وتصحيح كل اعوجاج ومعالجة كل القضايا الملحة بإخلاص وتجرد وصدق ويقين؟