(أنجزتُ هذه المادة سنة 1994 ونشر بعضها في جريدة "القلم"مستهل سنة 1995 ثم نشرتها جريدة "أقلام حرة" كاملة في عددها التاسع بتاريخ 20 /8/ 2000 ومع اقتراب رمضان ارتأيت إعادة نشرها، نظرا لبقاء جانب مهم مما أثير فيها، مع تقدير ما طرأ من تحسن).
يعد أمر الأهلة أحد أكثر الأمور إشكالا وحدة وتجددا، ولا يزال – مع كل المحاولات- يسير في الاتجاه السلبي.. وفي هذه السطور سأحاول التعرض لمختلف جوانب الموضوع وسبر أغواره دون تحامل على بريء، ودون إعفاء ذي مسؤولية منها، فإن وفقت فبفضل الله، وإلا فبما كسبت يداي.
وقد قسمت هذا العمل إلى قسمين: عام وخاص، وبالله التوفيق وعليه التكلان.
1 الصوم أحد أركان الإسلام الخمسة، ويحتل الرتبة الرابعة – بين الزكاة والحج- ويتشابك مع هذه الأركان (ما عدا الشهادتين) في تعلق كل منها بوقت محدد بشكل أو آخر، ويتفق مع الصلاة في ممنوعات الاستعمال أثناءهما، ومعها ومع الحج في الطابع الموسمي الجماعي.
من أنكر وجوب صوم رمضان كفر إجماعا، ومن تركه – مقرا بوجوبه- قتل حدا عند المالكية.
عرف اليهود والنصارى وغيرهم الصوم بشكل مختلف عن صومنا؛ فما زال صوم النصارى من منتصف الليل إلى الظهر، وكان اليهود ومن اقتدى بهم من عرب الجاهلية يصومون عاشوراء حتى جاء الإسلام ففرض في البداية على الأمة صيام ثلاثة أيام من كل شهر (أياما معدودات).
وكان الحاضر الصحيح مخيرا بين الصوم وبين الإفطار وإطعام مسكين عن كل يوم، فإن أطعم أكثر من مسكين فخيرا فعل، والصوم أفضل له لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}سورة البقرة 182 – 183.
واستمر الحكم كذلك إلى العام الثاني للهجرة فنسخ، وحدد الصوم بزمن معين (رمضان) وألغي التخيير بين الصوم والإفطار في حق الحاضر الصحيح، وكررت الرخصة في حق المريض والمسافر {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}. البقرة 184.
لا يكفي في الصوم الاجتهاد دون الإصابة؛ فمثلا لو حكم به قاض أو أدى اجتهاد المرء إليه يوما فصامه ثم تبين أنه من شعبان، أو أفطر يوما ثم تبين أنه من رمضان لتعين القضاء في الحالين ولم يُجْدِ الاجتهاد دون الإصابة. وكان الفقهاء يمثلون بالأسير في أيدي العدو؛ فحكمه أن يعتبر كل شهر كاملا ثم يصوم ما يفترض أنه رمضان، وإذا أدى اجتهاده إليه شهرا صامه، وعلى كل يجزئ ما تبين أنه صادف رمضان أو جاء بعده سوى يومي العيدين، دون ما تقدمه لأن الفعل فيه سبق الوجوب.
وعلى العكس لو تعذر على المصلي تحديد جهة القبلة لصلى إلى أية جهة شاء وصحت صلاته بالاجتهاد دون الإصابة.
2 يدور القمر حول الأرض، وتدور هذه حول الشمس، وهو بمثابة مرآة عاكسة لضوء الشمس؛ ولذا تختلف المساحة المنيرة من وجهه باختلاف موقعه إزاءها، فبينما ينير كاملا فجر الثالث عشر ومساءه (ليلة 14) حين يصبح في مواجهتها تماما، تبدأ المساحة المنيرة منه في التقلص كلما اقترب في مداره من الشمس، إلى أن يدخل في هالتها بعد 27 ليلة من عمره فيحتجب عن الأنظار ليلتين أو ثلاثا حتى يتخلف عنها بمسافة تسمح برؤيته، ثم تبدأ المساحة المنيرة منه في تزايد طيلة ابتعاده عنها ليصبح بدرا حين يصل أبعد المسافات منها.. وهكذا دواليك.
تدوم الدورة المذكورة 29 يوما وربع اليوم؛ أي أنه أقصر مدارا من الشمس حوالي إحدى عشرة مرة.
3 نزل الإسلام في واحد من أشد المجتمعات البشرية تخلفا وبساطة، وكان جيران هذا المجتمع يستخدمون حسابا قائما على اعتبار دورة الأرض بالشمس؛ وهو حساب لم يكن واردا أن يستخدمه – أو يستوعبه- مجتمع شبه الجزيرة العربية آن ذاك، بل كان الأنسب لأولئك القوم الحساب القمري لسهولة ملاحظة ما يطرأ على القمر من زيد فتمام فنقص فاختفاء فظهور..
وجاء الإسلام دين فطرة مبنيا على التيسير فلم يكن واردا أن يعتمد مقياسا غير متاح للجميع في تحديد الأمور المفروضة على الجميع؛ لذا اعتمد الحساب القمري في كل الآجال الشرعية من صوم وحج وحمل وعدة ورضاع ودَيْن.. إلخ.
يقول الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} سورة البقرة /188. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا» (يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم بألفاظ متقاربة (واللفظ هنا للبخاري).
جاء هذا الحديث ردا على من ذكر علم الفلك (الحساب الشمسي) كما جاء صريحا في تعليل الرفض بالأمية والتخلف.
قال ابن حجر: قوله: «إنا» أي العرب، وقيل: أراد نفسه صلى الله عليه وسلم. (فتح الباري، شرح الحديث رقم 1780).
4 كان التساهل شديدا في إثبات الأهلة صدْرَ الإسلام بحكم وجود الصحابة – رضي الله عنهم- أغلبية (الصحابي عدل في الشرع) وهو تساهل تدعو إليه – مع ذلك- الوسائل المتاحة؛ حيث المواصلات تكاد تكون معدومة بالمقارنة مع العصور التالية. وفي فترة لاحقة اعتمد عدلان لكونهما حجة شرعية في سائر الأمور، فإن لم يوجدا فخليط من الناس لا تشترط عدالته؛ بل يكفي تواتره على أمر يستبعد صدوره فيه عن نية سيئة أو اتفاق مسبق (المستفيضة). وقد رأى العلماء رحمهم الله – وخاصة مالك- أن أرض الإسلام بمثابة دار واحدة؛ فلو ثبت الهلال بأحد أرجائها لوجب على الجميع العمل بمقتضى ذلك من صوم أو فطر، ما لم تتباعدا جدا كأقصى إيران من إسبانيا والبرتغال (خراسان من الأندلس بالتعبير القديم) ولا يدَّعون أن عدول أي من المنطقتين غير ملزمين للأخرى لجرح أو نحوه، وإنما لاستحالة علم هؤلاء بما صح لدى أولئك إلا بعد مضي أكثر من شهر بحكم الوسائل المتاحة في تلك الأيام.
ويَرِد هنا خبر كريب رضي الله عنه، إلا أنهم حملوا موقف ابن عباس – رضي الله عنهما- على أنه شخصي أملته الأزمة المعيشة في الخلافة في تلك الفترة.
5 في القرن الميلادي العشرين بلغ تفكيك العالم الإسلامي وتجزئته الحد الأقصى، إثر خضوعه لقوى حاقدة أمعنت في تفتيته وتقسيمه. وعند ما نالت الدول الإسلامية استقلالها كان ذلك وفق قواعد جديدة تفرض احترام الحدود الموروثة عن المستعمر! وكان من التحديات (بعد استقلال تلك الدول) أمر الهلال، إلا أنه لم يحظ بالاهتمام المناسب (ربما لبعده عن التأثير على مراكز القرار السياسي) فإذا كان الإسلام الحنيف يرى المسلمين أمة واحدة فبديهي أن لا يعترف بحدود وضعها الغرب الصليبي لحاجات في نفسه، في تحديد شعائر الدين؛ خصوصا بعد ما أصبح اتصال الكون أوثق وأسهل نتيجة الفتوحات التقنية التي ألغت المسافات.
ولم تفلح كل الجهود المبذولة لتوحيد الرؤية جراء المواقف السياسية.
من ذلك أن الدول الإسلامية عهدت في الثلث الأخير من القرن الميلادي الماضي إلى لجنة من الخبراء الشرعيين والفلكيين بدراسة إمكان توحيد الرؤية على امتداد العالم الإسلامي، وبعد برهة من العمل الجاد وصل الخبراء إلى نتيجة مفادها عدم وجود مانع - شرعي ولا فلكي- من ذلك، وحين طرح الأمر للمصادقة كانت ثلاث دول – على الأقل- تصر كل منها على "حقها" في احتضان مركز الإعلان عن الهلال؛ وهو ما عطل التنفيذ وقاد تونس وتركيا إلى اعتماد الحساب الفلكي بشكل مباشر.
6 لا يختلف العلماء في حلول كل الآجال الشرعية (ومنها الأهلة) بالرؤية المباشرة، وبكمال الشهر ثلاثين ليلة، وبالتواتر في حق من لم ير بنفسه، وبعدلين مع الغيم أو ضيق التجمع السكاني، إلا أنهم لا يتفقون على ثبوت الهلال بعدلين مع الصحو في تجمع سكاني كبير، مراعاة للأغلبية التي لم تر هلالا دون وجود مانع من ذلك؛ وهذا ما يجعل نسبة الخطأ إلى شخصين أولى من نسبته إلى خلق كثير.
كما لا يختلفون في لزوم حكم القاضي ما لم يتسرع في الحكم أو يستند إلى غير مستند مجزئ، ولا في حكم إمام المسلمين، أو واليه (لقيام الأخير مقام الأول) إلا أن الأخيرين اليوم غير موجودين ويا للأسف! فلا يمكن العثور بين قادة المسلمين المعاصرين على من تتوفر فيه الصفات المشترطة شرعا، وأضرب مثالا بثلاثة شروط إجماعية فقط:
أ. أجمعوا على وجوب كون الإمام واحدا، ولم يعترفوا بالتعدد إلا للأندلسيين إزاء الدولة العباسية لصعوبة التنسيق (آن ذاك) بين الواقعين خلف الأبيض المتوسط في نحور الإفرنج وبين القيادة في بغداد؛ وهي صعوبة لم تعد أمثالها مطروحة الآن.
ب. أجمعوا على وجوب كونه صالحا للقضاء مستغنيا عن الفتوى في أغلب أموره (دون تعليق!).
ج. أجمعوا على وجوب كونه صالحا في نفسه؛ فلا يجوز الإقدام على تولية الفاسق أمور المسلمين.
7 لو ألقينا نظرة على العالم الإسلامي اليوم لوجدنا:
أ. أكثر من 100 حاكم تحت أسماء مختلفة في حين صارت قيادة الكون مركزيا أمرا ميسورا.
ب. أغلبهم لا يرى في الشرع الإسلامي أكثر من جزء من التاريخ ينبغي احترامه دون التقيد بأوامره، ومنهم من يراه عدوه اللدود!
ج. معظمهم يجعل نفسه في مقام الشريك الأقوى لله (تعالى الله عن ذلك) فيحجر على أوامر الله عند حدود معينة، لكنه يطلق العنان لأوامر نفسه دون حدود.
د. يندر منهم من يستطيع الاستشهاد بآية قرآنية على نحو سليم؛ بله الصلاح للقضاء. أما استغناؤهم عن الفتوى فإنما يكون لعدم استعمال محلها أصلا.
من هنا يتقرر – دون تجن ولا تحامل- شغور منصب الإمامة الكبرى على امتداد رقعة العالم الإسلامي، كما لا يوجد – بالتالي- من يمكن اعتباره واليا، لغياب سلطة مركزية (من المسلمين على الأقل) يخضع لها هؤلاء الحكام، ومن ثم فكل متعلقات الإمامة حلقة مفقودة في عصرنا حتى إشعار آخر. وإذا كان لدينا من يعول عليه في هذا المجال فلعله القضاة الشرعيون.
يتواصل بإذن الله