نظم صالون الولي محمذن ولد محمودا زوال يوم السبت 28ـ05ـ2016 ندوة فكرية متميزة عالجت من زاوية دينية أكاديمية موضوع "التطرف والغلو" أنعشها لفيف من الأساتذة الشباب في جامعة العيون وحضرها جمع معتبر من الأساتذة الأكاديميين والفقهاء والاعلاميين. ولإن كان الموضوع قد أشبع تناولا منذ رصدت قرون الاستشعار الفكري تشكله وتابعت حراكه ورصدت بؤر تطوره ومجالات تمدده وحيز تأثيره، إلا أن فتية جامعة العيون استطاعوا بما أبانوا عنه من دراية عالية بجميع أوجهه و تمكنهم البادي من ناصية معتقدهم المنقى من التعصب و قد اتبعوا لذلك منهجية بدت بملامح العصر محررة من الجمود و التعصب، وبشمولية نظرتهم إلى الدين الإسلامي متوشحة بحلة قشيبة من الفكر المتنور تمرره لغة جديدة و أنيقة تحمل سمة ونكهة الحداثة وتستجيب بانسيابية ومرونة لا تكلف فيهما لمتطلبات الفهم وبما يلامس واقع الحياة، وبعمق إدراكهم واضطلاعهم المكثف كذلك على أدبيات الموضوع في عالميته بجميع تشعبات مقاصدها وإحاطتها وإفرازاتها ومختلف تأثيراتها على مسار بلادنا بمفردها من منطلق خصوصياتها وضمن المسار العام لأمتيها العربية و السلامية في إطار المشتركات والقواسم والسمات العامة.
ولما أنه قد تسير على المحاضر الرئيس والمعقبين ومن بعدهما ثلة من الأساتذة الأكاديميين تعريف مفهومي التطرف والغلو لغةً واصطلاحاً، فإن الأمر لم يكن إلى حد ما كذلك في التعريف الشافي لمصطلح الإرهاب الذي يرتبط بهما وما يتولد عنه من مخاطر لا تقف عند حد، وإذ تعريفه ما زال أيضا إلى اليوم بحسب الكثيرين منحصرا في المعنى اللغوي له.
ولما أن كل المداخلات باختلاف الزوايا التي تمت منها وحدتها وتباين الطرح فيها شكلا مضامينيا ومستقى منهجيا واستخلاصا علميا، إلا أن التقاطع عموما جاء عنوة في عديد استنتاجات لخصت بعض أسباب التطرف والغلو وما نجم عنهم من إسفاف في الفكر وشطط في السلوك وحدة في التطبيق إلى حد الارهاب والترهيب، والتخريب والتدمير؛ أسباب عموما تخلصت في:
· الاحكام الجائرة التي تصدرها جهات متعصبة بالتكفير والتفسيق والتبديع،
· الجهل بالدين، وعدم فهم النصوص الدينية فهما صحيحا، والبناء على ذلك بناء خاطئا بعيدا عن حقائق ومقاصد دين الإسلام،
· التعصب البغيض للراي، او الشخص، او المذهب، وتقديس الراي الواحد، وعدم اعتبار رأي الأخر مهما وضحت أدلته، ومهما كانت حجته دامغة،
· السعي إلى الزعامة في الدين، والاستعلاء على الاخرين، وسوء الظن بهم، وتسفيه آرائهم، واتهامهم في دينهم،
· الغلو في التحريم، والتنطع في الدين، والتضييق على المسلمين دون ما حجة او دليل،
· تتبع المتشابهات وإغفال المحكمات، والاشتغال بالفروع والجزئيات، واثارة الجدل والخلاف حولها بعيدا عن الاهتمام بقضايا الامة الكبرى،
· البطالة والفقر بالنسبة لبعض الشباب والارتماء في احضان الارهاب الذي يغدق على اتباعه الارزاق والاموال.
كما كانت نقاط التقاطع جلية بين المحاضرة والتعقيبان والمداخلات الأكاديمية والمهتمة عند جملة من الاسباب الخارجية والداخلية التي تحدد ملامح الواقع الصعب والمحنة الكبيرة التي يمر بها العالمان العربي والإسلامي. وأما الخارجية منها فتلخصت أكثر ملامحها في:
· الحملات الظالمة الدنيئة التي تشن في الغرب علي الاسلام ورسوله وكتابه والتشهير به، وتنفير الناس منه، وإبعادهم عنه واستهجانه والاستهزاء به،
· التشهير بالمسلمين الذين يقاومون الظلم الواقع عليهم، واظهارهم بمظهر العداء للحرية والديمقراطية واتهامهم بالوحشية والهمجية والبربرية والإرهاب،
· استهداف العالم الاسلامي بحروب ظالمة تحت حجج وذرائع مصطنعة وواهية،
· التحالف مع الكيان الصهيوني الذي يحتل أرض فلسطين وشرد شعبها، وانتهك الحقوق والحرمات والمقدسات،
أما الأسباب الداخلية فجاء أبرز ملامحها كالتالي:
· الفساد المستشري في بعض البلاد العربية والاسلامية ويمس الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية،
· بروز تيارات مشبوهة وتكفيرية بشكل متزايد ومتسارع تستخدم بحرفية عالية وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة،
· القهر الذي تمارسه بعض الاحكام التعسفية أحيانا وعدم حرية الرأي والفكر في بلدانها،
· غياب متنفس للشباب يعبر فيه عن آرائه بحرية وعفوية لا تتعارض مطلقا مع جوهر الدين وحرماته بل إنها إن لامسته تحفظه وتسهم في تغيير النظرة المسيئة إليه وترفع من شأنه.
وبالطبع فإن الإجماع الذي ظهر جليا وبارزا من خلال الاستخلاص والاستنتاجات كان يؤكد على أن هذه الأسباب مجتمعة في منطقيتها ولكنها المتفاوتة القيمة والترتيب من حيث التناول وسلم الأولويات في محاربتها، لا يبرر في النظر العام الافتراء على الدين الاسلامي والخروج على سماحته ومبادئه، ولا يسوغ مطلقا إظهاره بصورة مشوهة، وتصوير المسلمين بوجه يظهره في نظر غير المسلمين دين غلو وتطرف وعنف.
وبقي السؤال المطروح على ضوء ما طرحت الندوة من إشكالات ومن تحليلات ووجهات نظر واجتهادات واستنتاجات ضاق الوقت عن إحاطة المحاضرة بها وكذا التعقيبات والمداخلات إحاطة شاملة شافية، هل الموريتانيون الذين لا يتجوز تعدادهم الثلاثة ملايين نسمة ـ أي أقل من سكان حي من أحياء "القاهرة" أو "كوالالامبور"، جميعهم مسلمين على مذهبهم واحد ـ يعيشون أجواء التحول إلى الغلو والنزوع إلى التطرف؟
وهل أن ما كان معلوما من تعايش الطرق التي وإن تختلف في بعض الأمور لم تنزع يوما مطلقا إلى الشطط، أصبح مهددا بما وصل إليها منذ عقود أعقبت الاستقلال من مذاهب وطرق غير معهودة تحمل للتكفير التلقائي عتادا هائلا من الأحكام المسبقة وأخرى مبررة ومن المسوغات والتأويلات؟
وهل فطرة الموريتانيين التي لا تخلو مطلقا في عمومها من سرعة التحول تحت وطأة العوامل النفسية المادية التي تستجد قادرة على الصمود أمام مغريات بعض هذه التيارات التي تمتلك، فوق أطروحاتها ومستنداتها وتأويلاتها، وسائل تفوق الخيال من المال وعتاد النشر والبث والإيصال والترغيب والترهيب؟