في المهرجان الذي عقده بالنعمة يوم الثالث من مايو 2016، تحدث رئيس الجمهورية عن عدد الأطفال في الأسرة، والآثار السلبية للإنجاب الفوضوي على النّتاج الديمغرافي. و هو أمرٌ واقع.
فهذه الظاهرةٌ ما فتئت تسبّب المآسي منذ أمدٍ بعيد. وتعاني منها كل الشرائح في المجتمع الموريتاني بدرجات متفاوتة وتبعا لآليات تتّسم في الآن نفسه بخصائص شمولية (تعدد الزوجات) وذاتية (عدم الاستقرار العائلي).
وعبر الأحقاب والعصور، اصطلت المجتمعاتُ البشرية كافة بنار تلك الظاهرة. فكلٌّ منها قد انتهج في وقت من الأوقات أسلوب التكاثر بالإنجاب لتعويض التناقص الذريع للسكان جرّاء الحروب والمجاعات والأوبئة. والطفرة المرتبطة بثورة العصر الحجري الحديث (الزراعة، التنمية الحيوانية، تدجين الأعشاب، التقرّي، وفي نهاية المطاف الصبغة الاجتماعية للتلاقي البشري)، لم تُحرز النتائجَ المتوخاة رغم تضاعف عدد سكان الأرض عشر مرات، منتقلا من 15 إلى 150 مليون نسمة. ولم تغير هذه الفترة وتيرة التعويض التقليدي المنتهج لتدبير النتاج الديمغرافي.
وكان على البشرية أن تنتظر القرن السابعَ عشرَ لتعرف منعطفا حاسما تمثل في(الانتقال الديمغرافي)، الذي ترسّخ في غضون القرن الثامنَ عشر، من خلال تضافر العديد من العوامل: تغيير العقليات الناجم عن ارتقاء المستوى التعليمي والثقافي، الوعي الصحي، النظافة، انخفاض معدل الوفيات، والنزعة المتنامية نحو إطالة أمد الحياة.
والمحصّلة هي ما دفع عجلة التقدم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي لدى الغرب.
ولا مراء في أن طرح هذه القضية على بساط النقاش واردٌ وسليمٌ حتى ولو ترتّب عليه استفزاز بعض المواقف المحافظة والغارقة في سراب الأوهام.
لنرفض الجمود
الواقع أن هذا الموضوع يعني الجميع، رجالا ونساء ـ بدون استثناء ـ مهما كانت انتماءاتُهم وتوجهاتهم. ومع ذلك، لمز البعضُ ـ عن وعي أو بدون وعي ـ إلى أن الموضوع لا يعني سوى شريحة خاصة ومهمّة من الشعب الموريتاني. وأُطلقت شرارة اللهيب، وأُثيرت العواصف وتعالت المزايدات، رغم أن القضية المطروحة في محلها تماما. فهي تقع في صُلب عمليتنا التنموية وطموحنا المشروع إلى الرقي والازدهار؛ ومن ثمّ يتحتّم علينا أن نناقشها بتأنّ ورويّة وبرودة أعصاب، لأن تداعياتها تضرّ الضعفاء والمعوزين في المقام الأول.
وإني لأدرك أن محظورا قد كُشف النقابُ عنه لأول مرة وكُسرت حواجزُ المسكوت عنه. وعندها اشرأبّت أعناق النزعات المحافظة من كل حدب وصوب. إن هذا الموقف المحافظ يرتكز في جانب كبير منه على هاجس الموت المبكر للأطفال، الذي تنبني عليه القواعدُ الزوجية الساعية إلى إنجاب أكبر قدر من الذرية.
والحال أن من المتعيّن إشعارَ مواطنينا بتحديات التنمية وعوائقها. فماذا تعني الضجة المثارة بهذا الصدد؟ إن الأمر يتعلق بالخصوبة الفوضوية وما ينجرّ عنها، فضلا عن الوفيات، من مآس تتمثل في الثالوث المشؤوم: الفاقة والجوع والمرض.
وبهذا تطرح للنقاش مسألة جوهرية، تعتبر أحد ركائز محرك التاريخ ورافعة قوية لنهوضنا إلى مصافّ الحداثة.
ولئن كانت موريتانيا، على غرار دول إفريقية أخرى، تنوء ببعض الأدْواء فما ذلك إلا بسبب الانسداد أو تحجّر العقليات وما يصاحبه من تعثّر للانتقال الديمغرافي والإنماء الثقافي. وما من ريب في أن هذا التعثّر يقف وراء تفشي الفقر والجهل والظلامية. وأنّى لبلد أن ينهض دون أن يحلّ هذه المعضلة المحورية ! ذلك أن هذه المسألة تُعد، بالإضافة إلى المستوييْن التعليمي والثقافي، ثالثة الأثافي في توجيه المسار التنموي لأيّ مجتمع.
فهي المنطلق والموئل الحاضن للتحوّلات النوعية الرامية إلى تطوير العقليات وخلق الوعي المُفضي، في التحليل النهائي، إلى تحقيق الحداثة. ويؤكد "عمانويل تود" أن "محو الأمية وضبط الخصوبة الديمغرافية يبدوان اليوم كمسلمات إنسانية".
اهتمام دائم بتحسين ظروف الحياة
إن تقدير المتغيرات النوعية حقّ قدرها يعضّد مقولةً لريني ديمون مؤدّاها أن التنمية ليست بالضرورة مسألة موارد وإنما هي مرهونةٌ بعلاقة الأفراد فيما بينهم ومع محيطهم. وهو يُحيل إلى عدة أمور في آن معا: التحكُّم في البيئة، وفي النسل (معدل الخصوبة)، وفي التربية، وفي العلاقة بين الجنسيْن. وعند التطرّق إلى هذه الإشكالية، لا يسعنا أن نغفل نظرية القس توماس مالتوس، ولا تعاليم الأنتتروبولوجيا الاجتماعية الثقافية الحديثة.
ما ذا يقول توماس مالتوس؟ يقول بكل بساطة إن التقدم التقني لا يمكن وحده أن يحقق تحسين الظروف المعيشية ما دام غياب الإكراهات يؤدي إلى نمو ديمغرافي صاروخيّ، وهو ما يعني زيادة الأشخاص الذين يتحتم الإنفاق عليهم. ولقد اصطدم هذا النمو الديمغرافي على مرّ المسيرة الملحمية للبشرية باستحالة اكتشاف أراض جديدة، وتعرض المصادر الحديثة للتدهور والنضوب. مما تسبب في حدوث المجاعةُ وانتشار الخصاصة. وهذا درسٌ نستخلصه من تاريخ المجتمعات البشرية برمّتها.
إنه أكثر من ذلك أحد القوانين المؤسّسة للاقتصاد الحديث. وهذا الدرس يفسر، عبر قانون المردودية المتناقصة، ظهور الريع العقاري والعلاقة ما بين الأرستقراطية والثروة. فهل نستنتج من ذلك أن بلادنا وإفريقيا والعالم أجمع محكوم عليها بالجوع والفقر؟ كلا بالطبع. ولا أدلّ على ذلك من حدوث ثورة العصر الحجري الحديث والثورة الصناعية.
الواقع أن القوانين الاقتصادية لا تكفي وحدها لتفسير تطور المجتمعات البشرية باعتبارها مجموعات مهيكلة تسير وفق قواعد تتجاوز الأفراد وتعلو على المنطق العقلاني الفردي. وهذا ما تكشفه الأنتتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية التي تُتيح قراءةً أخرى لعالم مالتوس الذي يواجه تزايدا ديمغرافيا يربو على الموارد الزراعية. وبالتالي فالأنتتروبولوجيا تسمح باستجلاء أعمق للإشكاليات التنموية التي تعترضنا كما تعترض أشقاءنا الأفارقة.
وهناك دراساتٌ أنتربولوجية وديمغرافية وتاريخية تُبرز الطريقة التي تعاملت بها كل حضارة، وفق معتقداتها ونظمها القيمية وآلياتها للضبط ومعطياتها السياقية، مع شح الموارد ومقتضيات البقاء الإنساني. فمن المجتمعات من اختار اجتناب العلاقات الجنسية، ومنها من اعتمد الوأْد، ومنها من حبذ تعدد الأزواج (الرجال) إلخ ... وتلك آلياتٌ لتنظيم النسل في غياب وسائل منع الحمل والتقيّد بقواعد الحياة السليمة.
إن هذه الإشكالية موجودة في أغلب البلدان الإفريقية والآسيوية بصيغ شتى ولكنها متحدة في الجوهر الذي يتمثل في السعي إلى إيجاد أفضل الظروف المعيشية للسكان. ويقتضي الاعتراف بهذه الفرضية اعتماد ما يُطلق عليه "الانتقال الديمغرافي" الذي يشكّل محركا للتغيير النوعي لحياة المواطنين. ومن شأن ذلك أن يعين على الخروج من هذه الدائرة المفرغة.
والحقيقة أن تركيز رئيس الجمهورية على التربية وإلزامية التعليم، ودور المرأة، وتغيير العقليات، والتنمية الثقافية، يعني إعطاء الأولوية المستحقة لرأس المال البشري. وهو موضوع يستمد شرعيته ووجاهته من ضرورات العصر بالنسبة لبلادنا وغيرها من البلدان الإفريقية.
ذلك أن الانتقال الديمغرافي، بوصفه محركا للتغيير الاجتماعي، متعطلٌ في 50% من الحالات بإفريقيا وما يزال في بواكيره في 38% من الحالات. فالبلدان الإفريقية تتوفر في مجملها على معدل خصوبة يتراوح ما بين 4 و5 مع مؤشر متوسط بمقدار 4.86.
لنتتحكم في ديمغرافيتنا
اعتمادا على المعطيات المتوفرة، تبدو إفريقيا كتلة منسجمة ديمغرافيا إلى حد ما مع معدلات تشتت ضئيلة نسبيا. وهناك خمسة بلدان انطلق فيها الانتقال الديمغرافي بصورة مستدامة هي: تونس (2.04)، وإفريقيا الجنوبية (2.8)، والمغرب (2.5)، والجزائر (3.2)، وبوتسوانا (3.8).
وبالمقابل، يصل مؤشر الخصوبة إلى مستويات قياسية في البلدان التالية: بنين (5.3)، وبوركينا فاسو (6.3)، وبوروندي (5.8)، وليبريا (5.8)، ومالاوي (6.1)، ومالي (6.1)، وموريتانيا (6.2)، وأوغندا (6)، واتشاد (6.2).
وأول منحى تفسيري يمكن تلمّسه في الاعتبارات الدينية (تعدد الزوجات). لكن الوضع في البلدان العربية والإسلامية يفنّد هذا الطرح. حيث يصل عدد الرجال المتزوجين بأكثر من امرأة إلى 30% في المملكة العربية السعودية و8% في كل من الأردن ومصر، في حين تم القضاء نهائيا على هذه الظاهرة في تونس وتركيا.
وكان العراق قد حظر تعدد الزوجات سنة 1958 قبل أن يبيحه عام 1994.
وعلى صعيد آخر تسجل بلادُنا، في مجال الخصوبة، تأخرا هائلا بالمقارنة مع بلدان إسلامية مثل إيران (2.1)، وتركيا (2.5)، وماليزيا (1.98)، وأندنوسيا التي هي أكبر البلدان الإسلامية من حيث عدد السكان (2.37). وبيننا وبين دول أخرى بونٌ شاسع: بريطانيا (1.7)، الصين (1.8)، فرنسا (2)، والولايات المتحدة الأمريكية (2.6).
وتأسيسا على ذلك، تعتبر إثارة هذه المسألة مسؤولية جماعية وواجبا مستقبليا. فلهذه الظاهرة صلةٌ بالجهل، والفقر المتفشي، و"الانتجاع" الزوجي، وهشاشة الخلية العائلية.
والواقع أن تقدم بلادنا رهينٌ، من بين أمور أخرى، بالخروج من هذه الدوّامة القاتلة. وفي هذا الصدد، لا شيء أجدى ولا أنجع من اتباع الخط التوجيهي المتمثل في الانتقال الديمغرافي والتنمية الثقافية ابتغاء رفع التحديات القائمة في وجه التقدم والحداثة. وتشكّل المتغيرات بهذا الشأن الدافع الحقيقي للتاريخ والمحركات النفاثة للتحولات النوعية الضرورية. فالتحكُّم في الخصوبة، ومعرفة القراءة والكتابة، والتسيير الأمثل للبيئة، عواملُ تؤسّس للارتقاء نحو الحداثة وتضبط المسار إليها.
وبهذه الوسيلة استطاعت المجتمعات الأخرى أن تخلق الشروط اللازمة للتحول الذهني وتطوير العقليات. ذلك أن عمق واتساع الآثار المترتبة على هذه المتغيرات النوعية هما الأساس الضروري لترسيخ الديمقراطية والتطور الاجتماعي المستدام.
من أجل مستقبل شبابنا
يمدنا التاريخ بأدلة دامغة على الارتباط الشرطي ما بين التقدم وبين المتغيرات المسوقة آنفا، سواء تعلق الأمر بسيطرة أوربا على العالم ابتداء من القرنين السابعِ عشرَ والثامنِ عشرَ، أو بالدور الحالي الذي تضطلع به آسيا وأمريكا اللاتينية والبلدان الصاعدة. ويُبرز الدورُ الحاسم لهذه القارات العلاقة شبه الحتمية ما بين انخفاض معدل الخصوبة وتنامي معدلات التمدرس ومحو الأمية وتطور الوعي والعقليات. وهذا ما قاد افرانسيس فوكوياما إلى أن يبني نظريته في الطابع الكوني للديمقراطية على هذا الارتباط الشرطي. وفي أفق تطور البلاد وتنميتها، تتعين ضرورة إجراء الانتقال الديمغرافي تفاديا للعواقب الوخيمة لارتفاع الخصوبة. وليس من قبيل الصدفة أن نرى أعدادا غفيرة من الرجال والنساء في مختلف البلدان يعملون ما في وسعهم للخروج من هذه الدوّامة القاتلة؛ إذ الجمود والتكاسل عن التصدي لهذه المأساة يعدان خطيئة بدون شك.
فعلى السلطة العمومية وعلينا جميعا أن نكسر طوق الصمت الآثم الذي يحيط بهذا الواقع المزري. وسيدفع ذلك إلى ربط خيوط التقدم وتحفيز مخيّلتنا لابتداع انتقال ديمغرافي قائم على قواعد مبتكرة. إن الواجب يقتضي أن لا نترك المزايدة والديماغوجية تعلوان على العقل. فمستقبل شبابنا وأطفالنا وتحرير نسائنا على المحك. ويعني ذلك أن نسعى إلى إنجاز وثبة وطنية تفتح آفاقا تعيد إليهم الثقة في المستقبل.