كان الإعلان عن مشروع التعديل الدستور القاضي بإلغاء مجلس الشيوخ، وتشكيل مجالس جهوية بعد عرض التعديل على الاستفتاء الشعبي، واستعراض الوضعية الاقتصادية للبلد، والرد القوي على حرب الشائعات، التي تقودها بعض القوى السياسية نكاية بالنظام، وانتقاما لنفسها، لضرب السلم الاجتماعي وأمن البلد واقتصاده الوطني ـ الذي تمكن من تجاوز الظرف العصيب الذي سببه انهيار أسعار المعادن والتي تشكل أحد أهم الموارد المالية للدولة ـ المواضيع الرئيسية لخطاب رئيس الجمهورية في مدينة النعمة.
لكن ما لم يقل الرئيس أن الحكومة لن تقف صامتة مستقبلا أمام ابتزاز المعارضة المقاطعة وذلك ما يحمله دفاعه عن الوزراء الذين تصدوا لهذا الابتزاز داخل البرلمان، أيضا ترك الرئيس الانطباع بأن البلد قد دخل مرحلة مفصلية من مساره الديمقراطي، تستدعى نوعا من الجدية وضرورة الحضور الفعال في صناعة مستقبل البلد الذي يتوجه إلى إجراء إصلاحات جوهرية تكرس الديمقراطية وتسد الثغرات ومكامن الضعف من خلال إعادة تقييم هذه التجربة وإدخال التغيرات اللازمة والمناسبة مما يفسر الإصرار على التمسك بالحوار بهدف خلق مستوى من الإجماع الوطني على هذه التغيرات الجديدة.
كما أكد الرئيس أن الإصلاح خيار لا رجعة فيه لكن الجديد في الأمر أن هذا التوجه غير قابل للتراجع عنه مستقبلا، مما يعني أن ترتيبات تسليم مشعل الإصلاح لأجيال جديدة أكثر إيمانا بهذا الخيار وقدرة على مواصلته قد بدأ بالفعل من خلال دعوة الشباب لممارسة العمل السياسي.
وبخصوص المأمورية الثالثة ـ رفض أن يشفى غليل معارضيه ـ وترك الانطباع أنها مشكلة مختلقة مستشهدا بماضيه وعلاقته بالسلطة مؤكدا أنها لم تشكل طموحا شخصيا بالنسبة له بقدر ما هي مسؤولية، وبخصوص الحوار حسم النقاش عندما أكد أنه سيتم في أجل محدد وبمن حضر.
وعلى مستوى السياسية الخارجية كشف الرئيس أن موقف موريتانيا الحاضر الغائب في الساحة الإقليمية والدولية أصبح من الماضي وأن علاقة الشراكة مع الدول الشقيقة والصديقة يجب أن تطبعها المعاملة بالمثل التي هي البوصلة التي توجه هذه العلاقة.
لقد أكد رئيس الجمهورية من جديد من الحوض الشرقي أنه من يتحكم في توجيه دفة النقاشات السياسة في البلد، حيث استطاع أن يعيد الألق لخطاب الأغلبية؛ من خلال تأكيده على تمسكه بإحدى نقاط مشروعه الأكثر جاذبية بالنسبة للشباب والنساء، والتي أطلقها قبل سنوات والمتمثلة في تجديد الطبقة السياسية، الأمر الذي جلب عليه أغلب خصوماته داخل مختلف أجنحة الطيف السياسي وإن بنسب متفاوتة، وخصوصا من طرف المعارضة المقاطعة التي حملت هذا الخيار على أنه استهداف شخصي لقيادتها التاريخية التي تقادم العهد على بعضها بشكل لافت، رغم أنه لم يسجل لأغلبها مواقف تذكر تجاه الشأن العام، باستثناء تسجيل "المقاطعة" ماركة مسجلة باسمها، الأمر الذي أفقد العمل الديمقراطي إحدى أفضل آلياته المتمثلة في التناوب السلمي، والذي شكل مطلبا أصيلا لدى المعارضة الموريتانية التقليدية تجاه مختلف الأنظمة التي حكمت البلد.
لقد حمل خطاب الرئيس الذي ظهر واثقا من نفسه، يقفز الصدق من بين ثنايا فقرات حديثه وحروف جمله ـ والأمر أكده جو المرح الذي كان يضفيه على المهرجان، من خلال التعليقات الطريفة التي كان يلقيها من حين لآخر ـ حمل أكثر من رسالة كان من أبرزها التأكيد على حقيقة كان يدركها الجميع لكنهم يتعاملون معها بصمت، وهي أن من بين معارضة المقاطعة من لن يحاور مهما قدم من تنازلات، في انتظار المجهول واللعب على وتر تضييع الوقت لتكريس ظاهرة انتهاء عهد المؤسسات الديمقراطية وإظهارها بمظهر المؤسسات الفاقدة للشرعية لإحراج النظام.
لكن تبقى الرسالة الأهم أن الرئيس ترك الباب مشرعا أمام من يريد أن يسجل له التاريخ أنه شارك في بناء مستقبل أمة ولم يتخلف، تماما كما أعطى الخيار لمن يريد أن يسجل موقفا: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، دون أن ينسى التأكيد بشكل غير مباشر على أن من يحارب الإصلاح سيدفع ثمن اختيار مواجهة الشعب .